طبريا - خاص موقع الفادي
كتبت مريانة فضة
على ضفاف بحيرة طبريا، حيث يلتقي زرقة الماء بزرقة السماء، وتقف النسائم الباردة لتداعب وجوه الزائرين، تقبع كنيسة تكثير الخبز والسمك، شاهدة على معجزة أبدية. في هذا المكان الصغير، المعروف باسم الطابغة، كانت الأرض وما عليها تشهد على قدرة الله في تحويل القليل إلى وفرة، والجوع إلى شبع، والضعف إلى قوة، والإيمان إلى حياة متجددة.
على ضفاف البحيرة، كان يسوع يعلّم جموعًا كبيرة تبعته ليستمعوا إلى كلماته، حتى مالت الشمس وغلبهم الجوع. نظر إليهم يسوع بعين الرحمة وقال لتلاميذه:
.«أعطوهم أنتم ليأكلوا»
فأجابوه بأن ما لديهم لا يكفي، إذ لم يكن معهم سوى خمسة أرغفة وسمكتان أحضرهما غلام صغير. عندها أخذ يسوع الخبز والسمك، ورفع عينيه نحو السماء، بارك وشكر الله، ثم كسر الخبز وبدأ بتوزيعه على التلاميذ ليعطوا الجموع. فحدثت المعجزة: القليل تكاثر بين أيديهم حتى أكل الجميع وشبعوا، وجُمعت بعد ذلك اثنتا عشرة قفة مملوءة من الفائض. كانت تلك اللحظة إعلانًا عن قدرة الله على تحويل النقص إلى وفرة، وعن الإيمان الذي يجعل المستحيل ممكنًا، إذ يُبارك الرب ما يُقدَّم له بمحبة فيجعله بركة للجميع.
عند الموقع نفسه، بُنيت كنيسة تكثير الخبز والسمك لأول مرة في القرن الرابع الميلادي لتبقى شاهدة على هذه اللحظة التاريخية. تقع الكنيسة في الطابغة شمال غرب بحيرة طبريا، ويعود اسم المكان إلى كلمة يونانية تعني “الينابيع السبعة”، في إشارة إلى المياه العذبة التي تنبع من الأرض وتروي الخضرة المحيطة بها، كما روت المعجزة عطش الإيمان في نفوس الجموع.
بعد ذلك، أعيد بناء الكنيسة في القرن الخامس الميلادي مع إضافة فسيفساء بيزنطية رائعة تصور سلة مليئة بالأرغفة ووراءها السمكتان، لتظل رمزًا خالدًا للعطاء الإلهي والبركة التي لا تنضب. داخل الكنيسة، يلفت النظر مذبح رخامي بسيط يقف فوق الصخرة التي يُعتقد أنها المكان الذي وُضع عليه الخبز والسمك يوم المعجزة، وكأن كل زاوية من المكان تهمس للزائر بأن كل ما يُقدَّم بإيمان ومحبة يباركه الله ويجعله وفيرًا.
تُعد الكنيسة لاتينية كاثوليكية، ويخدم فيها الرهبان البندكتيون الذين يعتنون بالمكان وبالحجاج والزوار. هؤلاء الرهبان حافظوا على الكنيسة وروحانيتها، وجعلوها مركزًا للتأمل والصلاة، حيث يلتقي التاريخ بالإيمان، وتصبح كل زيارة فرصة للعيش بروح المعجزة وتجربة الحب والعطاء الذي جسدته المعجزة.
لم تكن رحلة الكنيسة سهلة على الإطلاق. عبر القرون، واجهت مراحل من الدمار وإعادة البناء نتيجة الغزوات والاضطرابات التي شهدتها المنطقة، لكنها صمدت رغم كل المحن، محافظةً على مكانتها الروحية وقداستها. في العصر الحديث، أعيد بناؤها على الطراز البيزنطي في الثمانينيات لتصبح مقصدًا مقدسًا للحجاج والزوار من كل أنحاء العالم.
وفي عام 2015، تعرضت الكنيسة لحريق متعمد ألحق أضرارًا كبيرة بمبانيها، وكان صدمة للمؤمنين. لكن من بين رماد الحريق، أظهر المؤمنون وأبناء المنطقة تضامنًا وإصرارًا على إعادة الكنيسة إلى سابق عهدها. سرعان ما جرت عملية الترميم، لتنهض الكنيسة مرة أخرى، كرمز حيّ على الصمود والإيمان الذي لا ينكسر والنور الذي لا يخبو مهما عصفت العواصف.
زيارة الكنيسة ليست مجرد مشاهدة مكان تاريخي، بل تجربة روحية تلامس القلب والروح. صوت المياه المتدفقة من البحيرة، وضوء الشموع الذي يعكس ألوان الفسيفساء، وهدوء المكان، تجعل الزائر يشعر وكأنه واقف أمام عظمة الله ومعجزته الحية. هنا يدرك المؤمن أن الله قادر على مضاعفة القليل، وأن كل فعل صغير بالإيمان والمحبة يصبح بركة لا تنضب، وأن قلب المؤمن يمكن أن يكون وسيلة لظهور معجزات الرب في العالم.
إنها دعوة لكل مؤمن للتأمل والتعلم، لتقديم ما لديه بإيمان وثقة بأن الله يبارك القليل ويجعله كافيًا للعالم بأسره. من الطابغة إلى كل قلب مؤمن، تبقى الكنيسة شهادة حية على أن الإيمان يصنع المعجزات، وأن النور يسطع دائمًا مهما عصفت العواصف، وأن المحبة الحقيقية تبقى أثرها خالدًا عبر الزمن.



No comments:
Post a Comment