جنين - خاص لموقع ( الفادي)
أجرى الحوار مريانة فضة
في قلب مدينة جنين شمال الضفة الغربية، تقف كنيسة الفادي شاهدًا حيًا على حضور المسيحية في فلسطين ورسالة المحبة التي لا تعرف حدودًا. تأسست الرعية عام 1928، ومنذ ذلك الحين أصبحت بيتًا روحيًا يخدم المؤمنين في جنين والقرى المجاورة مثل برقين، برقة، الجلمة، دير غزالة، وكفر قود، ومقيبلة.
ويقول الاب عامر جبران راعي كنيسة الفادي في جنين ان الرعية شهدت عدة مراحل قبل بناء الكنيسة الحالية. ففي عام 1935 كان أبناء الرعية يصلّون في غرفة صغيرة بدار حداد مع الأب يوسف سعادة خلال فترة الانتداب البريطاني، وكان موقع الغرفة مقابل الدير الحالي. وفي عام 1950 انتقلت الصلوات إلى أحد بيوت دار المسعود قرب الصحة مع الأب يعقوب عبد النور، وكان المكان يُعرف باسم المحطة. ثم بين 1951 و1955 أقيمت القداديس في بيت فريد إرشيد بشارع حيفا على يد الأب ألبير جريبي، لكن الظروف السياسية أجبرت الكاهن على المغادرة. عندها برزت الحاجة إلى مكان دائم للرعية، فتم تشييد كنيسة الفادي عام 1956 بجوار سكن الكاهن، بقيادة الأب زكريا شومالي، الذي كان أول من حمل شعلة الإيمان في هذا المكان.
واضاف الاب جبران في حواره لموقع (الفادي) انه لم تقتصر رسالة كنيسة الفادي على مدينة جنين وحدها، بل امتدت لتضم القرى المجاورة، لتصبح قلبًا نابضًا يجمع المؤمنين من كل مكان. تضم الرعية اليوم نحو 75-70 عائلة، منها حوالي 50 عائلة في جنين، و8 عائلات في الجلمة، و8 في كفر كود، و6 في برقين، وعائلة واحدة في دير غزالة. ومع بناء الجدار الفاصل والتغييرات الجغرافية التي فصلت المقيبلة عن الرعية، بقيت كنيسة الفادي منارة تجمع القلوب، رمزًا للوحدة والإيمان، ومكانًا يذكر الجميع أن الإيمان يستطيع تجاوز المسافات والصعوبات ليبقى حاضرًا في كل زاوية من أراضيهم.
وتابع الاب جبران خدمت كنيسة الفادي عبر السنوات عدة كهنة، كل واحد منهم ترك بصمته الخاصة في حياة الرعية، وساهم في تعزيز الإيمان والروحانية بين المؤمنين، رغم الأوقات الصعبة والتحديات المستمرة. وفي آخر فترة قبل وصول الأب عامر، كان الأب لبيب دعيبس يتولى الخدمة، حيث أمضى 12 سنة من الإخلاص والعمل الدؤوب، إلى أن أنهى مسيرته في هذه الرعية، ليستلم بعدها الأب عامر جبران من قرية الرينة قرب الناصرة، الذي استجاب لنداء الخدمة بإيمان وطاعة من غبطة البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا.
ينتمي الأب عامر إلى جماعة الحياة المسيحية، التي ساعدته من خلال نشاطاتها الروحية والكهنوتية على صقل شخصيته وتعميق مسيرته مع الرب، فكانت هذه الخبرة الروحية دعامة أساسية حفّزت فيه الدعوة الكهنوتية ورسّخت التزامه بخدمة الكنيسة. ورغم التحديات السياسية والاجتماعية، اختار الأب عامر أن يبقى مع المؤمنين، يشاركهم أفراحهم وهمومهم، ويعيش معهم تفاصيل حياتهم اليومية، ليصبح حضوره رمزًا للرجاء والصمود.
ويتابع الاب جبران لموقع (الفادي) ان دير كنيسة الفادي يضم عدة مرافق تُسهم في خدمة الرعية وتنشيط حياتها اليومية. ففي قلبه تقع الكنيسة حيث تُرفع الصلوات، وإلى جانبها غرفة للاجتماعات تُستخدم للقاءات اللجان والنشاطات التربوية. كما يوجد في الدير روضة أطفال تُعنى بتنشئة الصغار على الإيمان والمحبة، وقاعة المسرح مخصصة للاحتفالات والأنشطة الاجتماعية التي تجمع أبناء الرعية في المناسبات المختلفة، وأيضًا تجمع أبناء البلد في الأنشطة المجتمعية. أما سكن الكهنة فهو مكان مخصص لإقامتهم ، ومن الكنيسة ينطلق الكاهن ليكون قريبًا من المؤمنين ويشاركهم تفاصيل حياتهم.
القداس الالهي يُقام كل يوم أحد في جنين الساعة السادسة مساءً، وفي القرى خلال أيام الأسبوع بشكل دوري، مثلًا مرتين بالشهر بكفر كود وهكذا في الجلمة ومرة بالشهر في برقين. كما تُقام الاحتفالات والمناسبات الخاصة في كنيسة جنين، ويشارك فيها جميع المؤمنين من القرى، ليصبح الدير قلب الرعية النابض بالحياة الروحية والاجتماعية.
ويشكّل حضور الشبيبة وكشاف ملح الأرض جزءًا مهمًا من حياة دير اللاتين بجنين، إذ أعاد الأب عامر جبران بعد وصوله إحياء نشاطاتهم في الدير بمساندة المؤسس أسامة الصايغ، لتعود روح الشباب تنبض بين جدرانه من جديد. تضم الشبيبة عدة فئات عمرية، يجمعها الشغف بالإيمان والالتزام بالكنيسة، وتسهم في تقديم برامج روحية وثقافية واجتماعية. كما ينشط الكشاف بحضوره المميّز في المناسبات والاحتفالات، مقدّمًا نموذجًا للانضباط والخدمة. ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل يتزين الدير أيضًا بفعاليات مميزة مثل الدبكة الشعبية، التي تُبرز هوية الشباب وتربطهم بتراثهم الفلسطيني، لتصبح نشاطاتهم وسيلة تزرع الفرح وتقوّي الروابط بين أبناء الرعية.
ويستمر الاب جبران انه في كل يوم، تمزج الحياة في الكنيسة بين الروح والعمل. الصلاة تتناغم مع متابعة الأب للشؤون الإدارية، ومراقبته لاحتياجات الرعية ومشاكلها اليومية. كما يولي اهتمامًا كبيرًا لجمال الدير وترتيبه، لأن المكان يعكس جمال الروح الداخلية ويبعث الراحة والإلهام في نفوس المؤمنين. هذا التوازن بين الصلاة والعمل يضمن استمرار الرعاية الروحية والاجتماعية، ويعزز حضور المسيحية في الأراضي المقدسة، رغم كل الظروف الصعبة.
وفي رسالته لأبناء الرعية عبر موقع (الفادي) يقول: إن من معاني اسم جنين هو " الجَنين" يذكّرنا بالجَنين الذي يولد بعد المخاض، فرغم الألم يأتي الفرح. وهكذا تعلمنا الكنيسة أن بعد كل صعوبة، هناك دائمًا فرح روحي وداخلي. فلا تخافوا من التحديات، وافتحوا قلوبكم للمسيح كما دعا البابا يوحنا بولس الثاني، لتشرق حياتكم بالأمل والسلام. واليوم، وبينما تواجه جنين وفلسطين تحديات سياسية واجتماعية واقتصادية، تبقى كنيسة الفادي شاهدًا حيًا على قوة الإيمان، مذكّرة أبناءها أن الرجاء لا يُقهر، وأن جذور المسيحية التي انطلقت من هذه الأرض المباركة ما زالت قادرة على أن تُثمر، طالما أن القلوب ثابتة بالمسيح.
وربما تكون زيارة كنيسة الفادي ليست مجرد دخول إلى مكان حجري، بل دخول إلى تاريخ حي يروي قصة إيمان ثابت وسط العواصف. هنا تتجسد المحبة في أفعال يومية، والرجاء يسطع رغم التحديات، والقلوب تتوحد في المسيح. إنها دعوة مفتوحة لكل إنسان أن يجد في هذه الكنيسة مصدر إلهام وتجدد روحي، وأن يتذكر أن "كل شيء أستطيع في المسيح الذي يقويني" (فيلبي 4: 13).
فلتكن كنيسة الفادي في جنين مرآة نرى فيها أن النور أقوى من الظلام، وأن الإيمان قادر أن يزهر حتى في أصعب الظروف، لتبقى دائمًا منارة رجاء لكل من يقترب منها.

No comments:
Post a Comment