القدس - موقع الفادي
كتب سامي اليوسف الوكيل العام لبطريركية اللاتين
كانت الأشهر الماضية صعبة للغاية على عدة أصعدة، بما في ذلك الحرب التي لا تنتهي في غزة، والتي دخلت شهرها الحادي والعشرين؛ وحربٌ مُرهقة للأعصاب استمرت اثني عشر يومًا مع إيران؛ بالإضافة إلى العنف المفرط والدمار وقيود الحركة في الضفة الغربية. والمقلق أكثر أن كل هذه الحروب لم تقرّبنا من السلام، بل زادتنا بعدًا عنه، حيث تدّعي كل الأطراف تحقيق النصر، وتستمر الأحاديث عن المزيد من الدمار والانتقام والقتل، بدلًا من الحديث عن المصالحة ورغبة صادقة في معالجة القضايا الجوهرية والوصول إلى السلام الحقيقي الذي تحتاجه المنطقة بشدّة.
مع دخول الحرب على غزة شهرها الحادي والعشرين، تجاوز عدد القتلى 57,000 شخص، أكثر من 60% منهم من النساء وكبار السن والأطفال، بينما تجاوز عدد الجرحى 134,000. ومع انعدام البنية التحتية تمامًا، بما في ذلك تدمير 92% من الوحدات السكنية، يعيش أكثر من مليوني شخص في الشوارع دون أبسط مقومات الحياة، معرضين لأشكال لا تُحصى من المعاناة اللاإنسانية، يفرّون من منطقة إلى أخرى بحثًا عن "منطقة آمنة"، بينما يخاطرون بحياتهم للحصول على الطعام من خلال الوسيلة الوحيدة المتاحة وهي "مؤسسة غزة للإغاثة الإنسانية"، حيث تُهدَر الكرامة وتُعرض السلامة للخطر من أجل لقمة العيش. وقد أفيد بأن أكثر من 600 شخص قُتلوا حتى الآن أثناء وقوفهم في الطوابير للحصول على الطعام بهذه الطريقة.
أين في هذا العالم تحرمُ كامل شعب من الغذاء والماء والدواء والتعليم والبنية التحتية الأساسية لفترة طويلة، أمام صمت عالمي أصم وأبكم؟ ماذا ستكتب كتب التاريخ عن غزة في هذا الزمان؟
أما الحرب مع إيران التي استمرت اثني عشر يومًا، فلا يمكن اعتبار أحد منتصرًا فيها، ولم تُحلّ الأزمة بأي شكل. يشعر الكثيرون أن جولة جديدة من الصراع قد تحدث عاجلًا أو آجلًا. وخلال تلك الأيام، عشنا لياليَ بلا نوم، على وقع صفارات الإنذار والانفجارات البعيدة والهرولة إلى الملاجئ. كانت مستويات الدمار في إسرائيل غير مسبوقة مقارنة بجميع الحروب السابقة، حيث أصابت الصواريخ قواعد عسكرية، ومحطات كهرباء، ومصفاة نفط، ومستشفيات، ومراكز أبحاث، وجامعات. وذكرت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن 2,305 منازل تضررت في 240 مبنى، ما أدى إلى تشريد أكثر من 13,000 شخص، دون احتساب التكاليف الاقتصادية الباهظة للحرب.لو أن كل هذه الأموال أُنفقت على التنمية الاقتصادية وبناء المجتمعات، لكانت منطقتنا اليوم واحةً من السلام!
أما الضفة الغربية، فقد تحولت بهدوء إلى سجون كبيرة غير آمنة خلال حربي غزة وإيران. وتزايدت عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين الأبرياء من خلال هجمات عشوائية، وحرق منازل وسيارات وأشجار، وقطع الطرق، في الوقت الذي تنفذ فيه الحكومة المزيد من مصادرات الأراضي وتوسيع وإنشاء مستوطنات جديدة. كل هذا يجري بالتزامن مع تدمير مخيمات اللاجئين بشكل منهجي وإجبار الناس على النزوح. وتشير التقارير إلى أن أكثر من 70,000 شخص قد تم تهجيرهم قسرًا، وكثير منهم للمرة الثالثة أو الرابعة في حياتهم. يحدث كل هذا بينما تواصل الحكومة الإسرائيلية سياستها في خنق السلطة الفلسطينية ماليًا حتى كادت تنهار، حيث لم تعد قادرة على دفع الرواتب، وبلغت البطالة مستويات قياسية. أما التوجه الأخير للبنوك الإسرائيلية برفض استلام الأموال النقدية من البنوك الفلسطينية، فقد تسبب في أزمة غير مسبوقة بدأت مظاهرها بالظهور، خاصة في نقص الوقود، ما أدى إلى طوابير طويلة وتقنين في المحطات القليلة التي لا تزال تعمل. الفوضى في الضفة الغربية أصبحت وشيكة.
ورغم الصورة القاتمة نسبيًا، إلا أننا كشعب مؤمن وراسخ في الأمل، نواصل إيجاد الطرق للصمود، وتقديم الخدمات للمجتمعات التي أوكلت إلينا. أنهت مدارسنا عامها الدراسي في الموعد المحدد، واحتفلنا بمراسم التخريج نحو في ربيع هذا العام. وتنظيم غالبية الرعايا الآن أنشطة المخيمات الصيفية بمشاركة حوالي 6,000 شاب وشابة. لم تتوقف الأنشطة الرعوية بل توسعت في معظم المناطق، ويواصل الكهنة والراهبات خدمتهم رغم الضغط الهائل عليهم. كما يشهد قسم الخدمات الاجتماعية لدينا أكبر زيادة في عدد طلبات الدعم في تاريخنا، نتيجة للبطالة المرتفعة الناتجة عن الحروب وسياسات الحكومة الإسرائيلية. ورغم هذا التزايد، وبفضل كرم عدد كبير من المتبرعين من مختلف أنحاء العالم، ما زلنا قادرين على دعم الآلاف عبر تقديم المساعدات الطبية، ومنح دراسية، ودعم اجتماعي، وبرامج خلق فرص عمل وتمكين.
من المحزن أن نشهد شبه انهيار تام في النظام العالمي، مع غياب احترام القانون الدولي، والمعاهدات، والاتفاقيات الإنسانية، وكرامة الإنسان. ومن المحزن أيضًا رؤية المعايير المزدوجة في التعامل مع الأزمات حسب العِرق أو اللون أو الانتماء، والقسوة التي يُعامل بها الفلسطينيون، مع دعوات صريحة للتجويع والتهجير الجماعي التي أصبحت أمرًا اعتياديًا! لكننا نؤمن أن كل ظلم في العالم سيُواجه يومًا، وستُصحح الأخطاء التاريخية. فلنُصلِّ ونأمل أن يتحقق هذا قريبًا، وأن تشهد منطقتنا أيامًا أفضل لجميع شعوبها، سواء كانوا يهودًا أو مسلمين أو مسيحيين؛ إسرائيليين أو فلسطينيين.استمروا في الصلاة!
No comments:
Post a Comment