آية اليوم

Post Top Ad

Your Ad Spot

Friday, July 11, 2025

الحجارة التي تتكلّم: حفرياتٌ تُعيد رسم تاريخ كنيسة القيامة

 


القدس - موقع الفادي

في قلب مدينة القدس وتحت قبة كنيسة القيامة وعبق بخورها المقدس، تجري واحدة من أهم العمليات الأثرية وأكثرها تعقيدًا في الأرض المقدسة. ما بدأ كمشروع ترميم للأرضية في عام 2022، أصبح اليوم رحلة لكشف الطبقات الغائرة في تاريخ الإيمان، بقيادة البروفيسورة فرانشيسكا رومانا ستاسولا من جامعة "الحكمة" في روما، وبدعم الكنائس الثلاث الحارسة للمكان: الفرنسيسكان، والروم الأرثوذكس والأرمن، وبالتعاون مع سلطة الآثار.  

الترميم الذي أطلق شرارة الاكتشاف 

بدأ هذا المشروع الأثري في إطار أعمال الترميم الطارئة التي أُطلقت عام 2016، بعد أن كشفت الدراسات الهندسية عن تدهور مقلق في البنية الهيكلية للقبر المقدس والكنيسة ككل، بما في ذلك أرضيتها والبنية التحتية الأساسية من شبكات مياه وصرف وتهوية. لم تكن هذه الحفريات استجابة لحاجة تاريخية فحسب، بل جاءت أيضًا كضرورة إنشائية ملحّة لضمان سلامة الكنيسة واستدامتها.  

خلال تلك الأعمال، تم الكشف، ولأول مرة منذ أكثر من 500 عام، عن الحجر الأصلي الذي غُطي به قبر المسيح، في لحظة تاريخية وصفها كثيرون بأنها لقاء نادر بين العلم والإيمانوقد أثار هذا الحدث اهتمامًا عالميًا متجددًا، وفتح الباب أمام طرح أسئلة جديدة حول تاريخية هذا الموقع المقدس 

ومع تزايد الحاجة إلى ترميم الأرضية وتعزيز البنية التحتية، أُطلق عام 2022 مشروع موسّع بالتعاون مع الكنائس الرسولية الثلاث (الكاثوليكية، والأرثوذكسية والأرمنيةوسلطة الآثار، بإشراف علمي من جامعة الحكمة في روماويهدف هذا المشروع إلى استكشاف الطبقات الأثرية العميقة تحت أرضية الكنيسة، مع الحفاظ على انتظام الصلوات والطقوس الدينية 

ولضمان استمرارية الصلاة والحج، قُسمت المساحة إلى 11 منطقة تُرمّم بالتناوب، وتُنفذ الأعمال على مدار 24 ساعة في اليوم، مع إمكانية التوقّف أو التعديل المؤقت تماشيًا مع الصلوات الليتورجية داخل الكنيسة 


 خريطة للمنطقة الواقعة أمام القبر المقدس في كنيسة القيامة بالقدس، تُظهر تقسيم المناطق
   المصدر: أرشيف جامعة الحكمة، روما

من محجر إلى ضريح: تسلسل زمني فريد تحت الأرض 

رافقت البروفيسورة ستاسولا الزوار إلى أحد أعمق أقسام التنقيب، الذي يصل عمقه إلى نحو ستة أمتار، مشيرة إلى أن "هذه المنطقة تعيد تمثيل تسوية زمنية غير عادية". إذ تكشف الحفريات عن محجر حجري واسع كان يُستخدم لاستخراج الحجارة الجيرية في العصور الحديدية، قبل أن يُردم تدريجًا ويُحوّل إلى منطقة زراعية مزروعة بأشجار الزيتون والعنب، كما يذكر الإنجيل أن "في الموضع الذي صُلِب فيه كان بستان" (يوحنا 19: 41). وعُثر في هذه الطبقات على آثار حبوب لقاح، وعظام حيوانات، ومخلفات نباتية، تؤكد الاستخدام الزراعي والمجتمعي للموقع قبل أن يصبح مدفنًا.  

وبحسب شهادة البروفيسورة، فإن "التحليل لا يقتصر فقط على العناصر المادية، بل يشمل التربة والرواسب والأنواع النباتية، لنفهم طبيعة الحياة التي كانت قائمة في هذا الجزء من القدس".

 
 علماء الآثار في خضم حفريات كنيسة القيامة
  المصدر: حراسة الأرض المقدسة

حجارة تقاوم النسيان: الجلجلة وبقاء الذاكرة 

في أحد أبرز الملامح الأثرية التي صمدت حتى اليوم، يشير الأب أميديو ريكو، عالم الآثار في المعهد البيبلي الفرنسيسكاني، إلى أن "صدع الجلجلة الصخري، الذي يرتفع نحو خمسة أمتار عن الأرض، بقي شاهدًا صامتًا على كل ما جرى هنا عبر القرون". هذا التل حيث صلب المسيح، بقي محفوظًا حتى بعدما أقام الإمبراطور هادريان معبدًا وثنيًا فوقه في القرن الثاني الميلادي، في محاولة لطمس المعالم المسيحية الناشئةويضيف الأب أميديو: "تشير المصادر القديمة؛ اللاتينية واليونانية، إلى أن المسيحيين حافظوا على ذاكرة هذا الموضع رغم الاضطهاد، ولم يكفوا عن الإشارة إليه والإيمان بقداسته".  


لوح حجري يحمل كتابات تركها الحجاج باللغات اليونانية و اللاتينية  والأرمنية
   المصدر: أرشيف جامعة الحكمة، روما

الحفريات تكشف ما لم يرد ذكره في الإنجيل  

بحسب علماء الآثار، فإن هذه الحفريات لم تؤكد فقط ما ورد في الروايات الإنجيلية، بل أضافت إليها أبعادًا جديدة. فقد تبيّن أن المنطقة خارج أسوار المدينة القديمة كانت مليئة بالمقابر المنحوتة في الصخر، من بينها قبر يعود على الأرجح ليوسف الرامي، العضو في مجلس السنهدريم، الذي قدّم قبراً جديداً لوضع جسد المسيحويؤكد الأب أميديو: "لقد بدا كل شيء مهيأ لكي يُدفن يسوع بكرامة، رغم ضيق الوقت وقسوة الظروف".  

من هدم إلى قيامة: من هادريان إلى قسطنطين وبناء الكنيسة  

بعد أن غطى الإمبراطور هادريان الموقع بمعابد وثنية في القرن الثاني، أعاد الإمبراطور قسطنطين إحياء الذاكرة المسيحية في القرن الرابع، فأمر بهدم تلك المعابد، وبناء كنيسة عظيمة تليق بالمكان الذي شهد موت ودفن وقيامة يسوع المسيح. بدأت أعمال الحفر والبناء في زمن والدته القديسة هيلانة حوالي عام 326م، واستمر بناء الكنيسة لما يقارب عشر سنوات، خلال هذه الفترة أعيد استخدام كتل حجرية رومانية ضخمة في تشييد الكنيسة.  

على الرغم من الدمار الجزئي الذي لحق بالكنيسة في الغزو الفارسي عام 614م ثم في يد الفاطميين عام 1009م، أعاد الصليبيون بناء الكنيسة في القرن الثاني عشر، وتعود معظم معالمها الحالية، مثل القبة المستديرة، الجلجلة، وحجر الطيب، إلى هذا الوقت.  

وكشفت الحفريات الحديثة عن تفاصيل تقنية دقيقة تخص مرحلة البناء القسطنطينية. ففي الجهة الشمالية من الكنيسة، تمكن الفريق الأثري من تتبع الخنادق التي حفَرها الأب فيرجينيو كوربو في ستينيات القرن الماضي، إلى جانب الحصول على بيانات جديدة حول كيفية إنشاء المجمع الكنسي القسطنطيني داخل منطقة المحجر. أظهرت الطبقات الصخرية فروقات كبيرة في الارتفاع ناجمة عن قَطع عميق وغير منتظم في أرضية المحجر، كما هو الحال في مناطق أخرى من الكنيسة.  

لمواجهة هذا التحدي، لجأ البناؤون القسطنطينيون إلى تسوية الفروقات عبر ردم تدريجي باستخدام طبقات ترابية غنية بالخزف، مما ساعد في تصريف المياه وتثبيت أساس موحد لبناء الهياكل. كما أتيح للفريق الأثري تحليل طرق إنشاء الأساس الحجري للجدار المحيطي الشمالي من الكنيسة القسطنطينية، والذي لا يزال قائمًا حتى اليوم 

حفريات في الجهة الشمالية الغربية من الرُوْتوندا، بجوار الكنيسة القبطية 
   المصدر: أرشيف جامعة الحكمة
اكتشاف جديد في كنيسة الملاك، في وسط مدخل القبر: آثار في الصخر تشير إلى وجود حجر صغير يشبه المذبح الذي كان قائماً هنا
   المصدر: أرشيف جامعة الحكمة
حفريات في حضرة الصلاة 

رغم كل الأعمال الجارية، لم تتوقف الصلوات ولا الاحتفالات الدينية. تُجرى الحفريات بتنسيق دقيق، وتُعلَّق مؤقتًا خلال المناسبات الكبرى مثل احتفالات الأسبوع المقدّسهذا التناغم بين العلم والروحانية يُعبّر عنه الأب أميديو بقوله: "علم الآثار أضاء جوانب لم نكن نعرفها. لكنه في الوقت نفسه، زاد من هيبة المكان الذي نؤمن به مسبقًا".  

خاتمة: القدس التي تتكلم 

إن ما تكشفه الحفريات في كنيسة القيامة ليس مجرد اكتشافات أثرية، بل هو استعادة لذاكرة مقدسة، تُروى بالحجر والتراب والدموع. من محجر صامت إلى قبر المسيح، ومن طمس الذاكرة إلى قيامتها، تحكي القدس قصة الإيمان، وتؤكد أن الحجارة لا تزال تنطق، وأن هذا المكان لا يزال ينبض بالحياة الروحية والتاريخية، شاهدة ليومنا هذا على أن السيد المسيح مات وقام من أجلنا 

عن اعلام "البطريركية اللاتينية"

No comments:

Post a Comment

Post Top Ad

Your Ad Spot