الطيبة - موقع الفادي
كتب سند ساحلية:-
في زمنٍ يثقلُه الألم وتتعمّق فيه جراح الأرض المقدّسة، جاءت مبادرة لجنة الكهنة في بلدة الطيبة شرق رام الله لاعتماد شعارٍ ذي دلالة عميقة لاحتفالات عيد الميلاد المجيد هذا العام 2025: "عيدنا حكاية أرض".
ليس مجرّد شعارٍ احتفالي، بل تعبيرٌ عن انتماءٍ راسخ وإيمانٍ متجذّر، يربط بين معنى الميلاد وحكاية الإنسان الفلسطيني الذي يعيش على هذه الأرض ويتمسّك بها رغم ما يواجهه من قسوةٍ ومعاناة.
الطيبة، البلدة المسيحية الوحيدة بالكامل في الضفة الغربية، شهدت في الأشهر الماضية تصاعدًا في اعتداءات المستوطنين، طالت السكان وممتلكاتهم والمواقع المقدسة، إضافة إلى الأراضي الزراعية، خصوصًا خلال موسم قطف الزيتون، الذي يمثل رمزًا عميقًا للارتباط بالأرض في الوجدان الفلسطيني.
ويترافق ذلك مع الإجراءات اليومية للاحتلال الإسرائيلي، من إغلاق الطرق ونصب الحواجز والبوابات الحديدية، وقيود على الوصول إلى الأراضي والمزارع، واقتحامات متكررة، إضافة إلى سياسات تزيد من الضغوط الاقتصادية والأمنية، ما يؤثر سلبًا على حياة السكان اليومية وقدرتهم على الصمود المجتمعي.
وراء هذا الشعار أيضًا رسالة من أجل الكرامة الإنسانية، بحسب الأب فواضله، الذي أوضح أن حرمان الناس من أرضهم أو من حرية العبادة والتنقل والعمل واللعب يُعد انتهاكًا لحق أساسي وهبة إلهية. وأضاف أن "عيدنا حكاية أرض" يمثل صوتًا يطالب بالعدالة والسلام، ويذكّر بأن الدفاع عن الأرض يعني الدفاع عن الإنسان وكرامته التي منحها الله لكل فرد.
في جوهر الإيمان المسيحي، الميلاد ليس مجرد ذكرى عابرة أو احتفالًا بالأنوار، بل تذكير بأن الله اختار أن يولد في أرض بسيطة، بين بشر يعانون التعب والظلم. في بيت لحم قبل ألفي عام، كما في فلسطين اليوم، ينبثق النور من قلب العتمة. فكما وُلد السيد المسيح في زمن الاحتلال والضيق، يولد الرجاء اليوم في ظل القتل والاستيطان والحواجز، في قلوب أولئك الذين ما زالوا يتمسّكون بأرضهم رغم كل المخاطر.
الأرض ليست ملكًا مادّيًا فقط، بل هي بيت الإنسان وامتداد حياته. من يزرع فيها ويعتني بها يعيش علاقة عميقة معها، علاقة محبة وأمانة. لذلك فإن الاعتداء على الأرض أو منع المزارعين من الوصول إليها لا يمسّ بالملكية فحسب، بل يجرح كرامة الإنسان نفسه، لأنه يُبعده عن جزءٍ من هويته.
في حياة الفلسطينيين، الإيمان لا يُفصل عن الحياة اليومية. هو حاضر في تفاصيلهم، في الزرع، في الحجارة، وفي الزيتونة التي تظل واقفة رغم الرياح. كثيرون يرون في الميلاد اليوم معنى جديدًا: أن يولد الله من جديد في قلوب الناس الذين يصبرون ويعملون ويؤمنون أن الخير أقوى من الشر.
وشجرة الزيتون، رمز الأرض المباركة، تذكّر بالثبات والبركة والسلام. جذورها العميقة تشبه إيمان أهل الأرض الذين لم يغادروا رغم القهر، وثمارها تذكّر بأن الحياة يمكن أن تزهر حتى في التربة المتعبة.
من هذه البلدة الصغيرة، ينبعث هذا العام صوت الإيمان ليؤكد أن الميلاد ليس زينة أو مظاهر فحسب، بل هو إصرار على الحياة رغم الألم. فكما لجأ المسيح إلى الطيبة (أفرايم) بحسب إنجيل يوحنا (54:11)، بحثًا عن مكان للسلام والصلاة بعيدًا عن التوتر والاضطهاد قبل صلبه وموته وقيامته، تواصل الطيبة اليوم شهادتها، حكاية ولادة جديدة من قلب الجراح، وحكاية بشر يؤمنون بأن الله حاضر في كل تفاصيل حياتهم: في الحقول التي يزرعونها، في صبر الأمهات، وفي أعمالهم اليومية، وفي عزيمتهم على مواجهة التحديات والصعاب والاحتلال، وفي الزيتونة التي تشبه مصابيح النور، ثابتة رغم الظلام، شاخصة إلى السماء رمزًا للرجاء والحياة.
هكذا يصبح عيد الميلاد في الطيبة شهادة حيّة على الرجاء والإيمان، ورسالة حية تقول إن الأرض التي احتضنت المذود لا تزال تنبض بمعاني التجسّد والثبات. هنا، في قلب فلسطين، الإيمان ليس كلامًا عابرًا، بل جذور حيّة تمتد في التراب، تحكي قصة حبٍّ عميق بين الإنسان وأرضه، وبين السماء وهذه الأرض المقدسة التي شهدت ولادة المسيح وتستمر في حمل رسالته، من خلال المذود، والصلوات، والحقول، والطقوس والتقاليد المسيحية التي حافظ عليها الشعب الفلسطيني على مرّ الأجيال، لتبقى الطيبة رمزًا حيًا للمسيحية في قلب الأرض المقدسة.

No comments:
Post a Comment