بيت لحم - خاص موقع الفادي
كتبت مريانة فضة
في قلب وادٍ أخضر يعانق بيت لحم من الجنوب، ترقد أرطاس مثل لؤلؤةٍ مخفية بين التلال، تتلألأ بأنسجة التاريخ والعراقة. وهناك، بين عيون المياه وجداول الريّ التي تنساب منذ العهد الروماني، ينهض دير الجنة المقفلة شامخًا، كأنّه صلاةٌ من حجارةٍ بيضاء تهمس بحكاية مريم العذراء وسرّ الطهارة.
يُقال إن الاسم مستوحى من كلمات سفر نشيد الأنشاد:
"أختي العروس جنة مقفلة، عين مقفلة، ينبوع مختوم."
كأنّ الأرض هنا اختيرت لتكون رمزًا للطهارة، للسكينة، وللجنة التي حُفظت في قلب العذراء مريم. حتى هواء أرطاس يحمل شيئًا من القداسة، وكأنّ النسيم الخارج من الوادي يمرّ عبر بوابة سماوية قبل أن يعانق الزائرين.
في أوائل القرن العشرين، أرسل القدر أسقفًا أوروغويانيًا اسمه ماريانو سولير إلى هذه الأرض المقدسة، ليشتري أرضًا خضراء بمساحة فسيحة، ويحلم بأن يقيم عليها بيتًا للعبادة والتأمل. كان الدير ثمرة إيمانٍ وجهدٍ امتد لسنوات، شارك في بنائه أكثر من مئة عاملٍ بأيديهم البسيطة، حتى اكتمل عام 1904، ليصبح مأوى للراهبات وخدمةً للفقراء والأيتام.
ومنذ ذلك الحين، أصبح المكان بيتًا للسلام، تُرفع فيه الصلوات كل صباح على صوت أجراسٍ تتردد في الوادي، وتختلط أصواتها بزقزقة الطيور وماء الينابيع الجارية.
يتكوّن دير الجنة المقفلة من كنيسةٍ جميلة ذات قبةٍ حجرية تتوسطها أيقونة العذراء، تحيط بها أروقة هادئة وغرف صغيرة تُستخدم للتأمل والصلاة. يحتوي الدير أيضًا على بيتٍ للضيافة يستقبل الحجاج والزائرين الباحثين عن السكينة، وعلى حديقةٍ واسعة مزروعة بالأشجار والزهور التي تعكس روح اسمه “الجنّة”. خلف الكنيسة يوجد ديرٌ مغلق خاص بالراهبات، حيث يعشن حياة الهدوء والعمل والخدمة.
يتبع الدير للبطريركية اللاتينية في القدس، وتديره اليوم راهبات دير الجنة المقفلة، وهنّ من راهبات “بنات القديسة حنّة”، اللواتي كرّسن حياتهنّ للصلاة، والتعليم، ومساعدة الفقراء في بيت لحم والقرى المجاورة. يعيشن داخل الدير في نظامٍ جماعي يقوم على العمل اليدوي والزراعة وصنع المربى والزيوت المقدسة، إلى جانب العناية بحديقة الدير وبيت الضيافة.
أرطاس ليست مجرّد بلدةٍ تحيط بديرٍ قديم، بل هي لوحةٌ من الحياة. تنبع من جنباتها عيون المياه التي ما زالت تسقي الأراضي حتى اليوم، وتروي بساتين الخضار والفواكه التي تشتهر بها القرية. وهنا يتجلّى المعنى العميق لاسم “الجنة المقفلة” — فهي جنةٌ حقيقية، محاطة بأسوارٍ من حجارة وتاريخ، ومفتوحة فقط لمن يطرق بابها بقلبٍ نقي.
رغم التحديات التي تواجهها المنطقة اليوم — من القيود المفروضة على الأرض إلى صعوبات الحياة اليومية — ما زال الدير صامدًا كنبع إيمان لا يجفّ.
في كل عام، في الأحد الثاني من شهر أيلول (سبتمبر)، يحتفل الأهالي والحجاج بعيد سيدة الجنة المقفلة، حيث تُضاء الشموع، وتُرفع الصلوات، وتتحوّل أرطاس إلى مهرجانٍ من النور والمحبة.
زيارة الدير ليست مجرد رحلةٍ إلى موقعٍ أثري، بل عبورٌ إلى عالمٍ من السكون والصفاء. هناك، بين أروقة الدير وجدرانه العتيقة، يجد الزائر نفسه في حضرة الله والطبيعة، يسمع همسات التاريخ، ويشعر أن الأرض نفسها تصلي.



No comments:
Post a Comment