حقل الرعاة في بيت لحم… حيث نزلت بشارة السماء على بساطة الأرض
بيت لحم - خاص موقع الفادي
كتبت مريانة فضة
في قلب بلدة بيت ساحور القريبة من بيت لحم، حيث تمتزج الحقول بعطر التاريخ وأصوات التراتيل القديمة، يقف حقل الرعاة شاهدًا على لحظةٍ سماوية غيّرت وجه العالم.
هنا، في هذا المكان الهادئ والبسيط، بشّرت الملائكة رعاة الحقول بميلاد يسوع المخلّص، فامتلأت الأرض نورًا، وغمر السلام قلوب البشر.
منذ تلك الليلة المباركة، صار هذا الحقل مزارًا مقدسًا يقصده المؤمنون من كل أنحاء الأرض، يبحثون بين صخوره وسمائه عن سلامٍ داخليٍّ يولد من جديد — كما وُلد المسيح في مغارةٍ متواضعة، ليمنح النور للعالم كله.
في تلك الليلة الهادئة على تلال بيت لحم، كان الرعاة يسهرون حول نيرانهم الصغيرة، يحرسون قطعانهم تحت السماء الصافية. لم يكن أحد منهم يدرك أن السماء نفسها تستعدّ لتلامس الأرض في أعظم لحظة في التاريخ.
وفجأة، أضاء نور سماوي المكان، ووقف ملاك الرب أمامهم يقول بصوت يملأ القلوب سلامًا:
“لا تخافوا، فها أنا أبشّركم بفرحٍ عظيم يكون لجميع الشعب، لأنه وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلّص هو المسيح الرب”.
دهش الرعاة من المشهد، وازدادت دهشتهم حين انفتحت السماء وظهرت جوقة من الملائكة تسبّح قائلة:
"المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة".
كانت لحظة سماوية لا تُنسى — النور يغمر الحقول، والترانيم تعانق الليل كأنها تُعلن بداية فجر جديد للعالم.
وبعد أن صعد الملائكة إلى السماء، نظر الرعاة إلى بعضهم وقالوا بشوقٍ وإيمان:
"لنذهب إلى بيت لحم، ولنرَ هذا الأمر الذي أخبرنا به الرب."
فتركوا قطعانهم وساروا مسرعين بين التلال، حتى وصلوا إلى المغارة التي دلّهم عليها الملاك.
هناك، وجدوا مريم ويوسف والطفل يسوع مضجعًا في المذود، تمامًا كما قال لهم الملاك. ركعوا بخشوع، تأملوا الطفل الإلهي، وغمرهم سلامٌ لم يعرفوه من قبل. كانت البساطة تملأ المكان، لكنّ القلوب كانت تفيض بالعظمة والرهبة.
ثم خرج الرعاة فرحين، يروون للناس ما رأوه وما سمعوه، فتعجّب الجميع من كلامهم. عادوا إلى حقولهم وهم يمجّدون الله ويسبّحونه، لأنهم رأوا بعينهم ما بشّرتهم به السماء.
ومنذ تلك الليلة، صار حقل الرعاة شاهدًا على أعظم بشارة في التاريخ — المكان الذي اختار فيه الله البسطاء ليكونوا أول من يسمع صوت السماء، وليحملوا رسالة الفرح والسلام إلى العالم.
يعود أصل المكان إلى القرن الرابع الميلادي، حين قامت القدّيسة هيلانة، والدة الإمبراطور قسطنطين، بزيارة الأراضي المقدسة. وإذ سمعت عن المغارة التي ظهر فيها الملاك للرعاة، أمرت بتحويلها إلى كنيسة صغيرة تخليدًا للبشارة السماوية.
ومع مرور الزمن، بنى المسيحيون حولها ديرًا صغيرًا للرهبان، عاشوا فيه حياة صلاة وتأمل في قلب الطبيعة، حيث الهدوء ينساب كالموسيقى بين الصخور والزيتون.
شهد حقل الرعاة على مرّ العصور مراحل متعاقبة من البناء والتجديد، حملت في كل مرحلةٍ منها روحًا جديدة من الإيمان والجمال. ففي القرن الخامس والسادس الميلاديين، أُعيد بناء الكنيسة على الطراز البيزنطي الفخم، وتزيّنت جدرانها بزخارف فسيفسائية مهيبة ما زالت آثارها تلمع حتى اليوم شاهدةً على عراقة المكان. ومع مرور القرون الوسطى، طغى الإهمال على الحقل بفعل الحروب وتغيّرات الحكم، غير أنّ ذكراه لم تُمحَ من قلوب المؤمنين الذين ظلّوا يذكرون الأرض التي غنّت فيها السماء.
ثمّ عاد النور ليُشرق من جديد في القرن التاسع عشر، حين أعاد الرهبان الفرنسيسكان الحياة إلى المكان، فاشتروا الأرض ما بين عامي 1889 و1906 وبدأوا بعمليات التنقيب والترميم، ليعيدوا إلى الحقل مجده القديم. وفي عام 1953، حمل المعماري الإيطالي أنطونيو بارلوزّي حلم الميلاد إلى الحجر، فصمّم كنيسة الملائكة على هيئة خيمة الرعاة، لتغدو تحفة معمارية تنبض بالبساطة والسلام، يشعر من يدخلها وكأنه يعيش لحظة الميلاد ذاتها.
أما في الوادي، فقد ازدان المكان من جديد حين جُدّدت الكنيسة الأرثوذكسية عام 1989 بإشراف الأرشمندريت سيرافيم سابّايتس، الراهب المتواضع الذي كرّس حياته لخدمة الدير وأبناء البلدة بمحبة صادقة، حتى بقي اسمه محفورًا في ذاكرة بيت ساحور كقديسٍ عاش للسلام والبساطة، تمامًا كما عاش الرعاة الأوائل الذين نالوا بشارة السماء.
اليوم، وبعد مرور ألفي عام، ما زال حقل الرعاة في بيت لحم ينبض بتلك البشارة الأولى. في صمته ونسيمه، تسمع صدى الملاك يقول:"لا تخافوا".
بين أشجار الزيتون وأصوات الأجراس، تشعر أن السلام لم يغب عن المكان، بل يسكن في كل حجرٍ وكل نغمة ترتيلة.
هنا، يتذكّر الزائر أن الله لا يختار العظماء ولا الأغنياء ليحملوا رسالته، بل يختار القلوب البسيطة التي تعرف أن تصغي. تمامًا كما سمع الرعاة الصوت في ليلٍ هادئ، يمكن لكل إنسان أن يسمع نداء السماء في أعماق قلبه إن أصغى بإيمان.
إن حقل الرعاة ليس مجرد موقع أثري أو كنيسة قديمة، بل هو رمزٌ خالدٌ للسلام الإلهي، وللفرح الذي يولد في التواضع، وللنور الذي يشقّ ظلام الحياة. من يزور هذا المكان لا يعود كما جاء، لأن في صمته، شيء من السماء لا يزال يهمس:
"المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة".





No comments:
Post a Comment