نابلس - (خاص) موقع الفادي
كتبت مريانة فضة
في قلب مدينة نابلس، وعلى بعد 76 متراً من تلّ بلاطة العريق، ترتفع كنيسة بئر يعقوب كمنارة روحية نابضة بالحياة، تجمع بين عراقة التاريخ وعمق الإيمان، وبين ماضيها المجيد وحاضرها المليء بالعطاء. بُنيت هذه الكنيسة فوق البئر الذي حفره النبي يعقوب منذ آلاف السنين، لتظل شاهدة على حدث فارق في التاريخ: لقاء السيد المسيح بالمرآة السامرية، حين قال لها: «من يشرب من هذا الماء سيظل عطشانًا، أما من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش أبدًا» (يوحنا 4: 13-14).
يُروى أن الملكة هيلانة، والدة الإمبراطور قسطنطين الكبير، هي التي أمرت ببناء الكنيسة الأولى فوق البئر في القرن الرابع الميلادي، لتصبح مكانًا مقدسًا يتوافد إليه المؤمنون من أنحاء العالم. مرّت القرون وتعاقبت الإمبراطوريات، فتعرّضت الكنيسة للهدم أكثر من مرة، وأعاد الصليبيون بناءها في القرن الثاني عشر، ثم هُدمت من جديد وأُعيد ترميمها في القرن العشرين بجهود الكنيسة الأرثوذكسية.
ورغم الصعوبات، أُعيد افتتاح الكنيسة رسميًا في عام 2003، لتعود فتُعلن مجددًا رسالة الرجاء والسلام من قلب مدينة نابلس، ولتبقى بئر يعقوب رمزًا للماء الحي الذي يتدفق بلا توقف.
الدير والكاهن حكاية وفاء وصمود يقيم في دير بئر يعقوب الأب يوستينوس مامالوس، الكاهن اليوناني الذي كرّس أكثر من أربعين عامًا من حياته لخدمة الكنيسة وأبناء المدينة. جاء إلى نابلس عام 1980 بعد استشهاد الأب فيلومينوس، وواصل المسيرة بروح المحبة والتواضع، حتى عُرف بين الناس بلقب "أبو الفقراء" لما قدّمه من دعم ومساعدة للمحتاجين دون تمييز.
وخلال سنوات الانتفاضة، كان الأب يوستينوس مثالًا للتضحية، إذ فتح أبواب الدير أمام الجميع وساهم في تأمين الغذاء والطحين للعائلات المحاصرة. ورغم التهديدات والاعتداءات التي تعرّض لها، لم يغادر الدير، بل بقي شاهدًا حيًّا على إيمان لا يتزعزع.
بئر يعقوب موقع مقدّس ورسالة متجددة تُعدّ كنيسة بئر يعقوب اليوم من أهم المزارات المسيحية في فلسطين، حيث يقصدها الحجاج من مختلف أنحاء العالم ليشربوا من ماء البئر المقدّس، ويصلّوا عند المكان الذي شهد كلمات السيد المسيح عن الماء الحيّ والخلاص. وتتميّز الكنيسة بأيقوناتها الفريدة، وأنوار شموعها التي تبعث في النفس سكينةً عميقة، فتجعل من هذا الموقع الروحي ملتقىً للإيمان والسلام.
وفي كل عام، تحتفل الكنيسة بقداس مهيب في الأحد الخامس بعد عيد القيامة، بمشاركة غبطة البطريرك وعدد من الأساقفة والكهنة والمؤمنين، ليجددوا في هذا المكان المقدّس معاني الإيمان والرجاء، ويؤكدوا أن بئر يعقوب سيبقى منبعًا حيًّا يروي عطش القلوب بمحبة المسيح ونعمته.
بين الماضي والحاضر رسالة لا تموت رغم التحديات، تبقى كنيسة بئر يعقوب شاهدة على أن الإيمان أقوى من الهدم، والرجاء أعظم من الخوف. هي ليست مجرد بناء حجري، بل مكانٌ يفيض بالحياة، تلتقي فيه السماء بالأرض، ويشعر الزائر فيه بأن صوت المسيح ما زال يتردد بين جدرانه القديمة »: لو كنتِ تعلمين عطية الله، ومن هو الذي يقول لكِ أعطيني لأشرب، لطلبتِ أنتِ منه فأعطاكِ ماءً حيًّا«
في هذا المكان المقدس، يلتقي التاريخ بالإيمان، وتلتقي القلوب بالمحبة، لتبقى كنيسة بئر يعقوب ينبوعًا من النعمة والسلام يتدفّق بلا انقطاع، وشهادة حيّة على حضور الله في أرضه وبين أحبّائه.
وفي ختام هذا التقرير، يتقدّم موقع الفادي بخالص الشكر والتقدير للأب يوستينوس على خدمته المخلصة واستقباله الدافئ لكل الزائرين، إذ بفضل حضوره وتفانيه يبقى دير بئر يعقوب منارةً للرجاء وواحةً للسلام، تنبض بالإيمان في قلب مدينة نابلس.

No comments:
Post a Comment