القدس - موقع الفادي
في السادس والعشرين من نيسان 2025، افتُتحت الجلسة الأولى من التحقيق الأبرشي في دعوى تطويب وتقديس الأخت لويزا جاك، المعروفة اليوم باسم خادمة الله الأخت مريم للثالوث (1901–1942). وقد صدر قرار فتح الدعوى عن غبطة الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، بطريرك القدس للاتين، ويقوم المطران إيلاريو أنطونياتسي، مندوب البطريرك في محكمة الدعوى، بمتابعة ملف القضية، لذا ارتأينا إجراء هذه المقابلة بتاريخ 30 حزيران 2025، حيث أجرى اللقاء الأنسة ميرال عتيق، مسؤولة مكتب الإعلام في البطريركية، لتسليط الضوء على المراحل والإجراءات الرسمية لهذا المسار الكنسي.
لماذا فُتح التحقيق الأبرشي الآن؟
أوضح المطران إيلاريو أن فتح القضية لم يكن وليد اللحظة، بل هو نتيجة مسيرة طويلة من التحضير بدأت بعد وفاة الأخت مريم، وشارك فيها كهنة ورهبان وراهبات ومؤمنون على مرّ السنين. وقد تكررت الطلبات من مناطق عدة، من بينها القدس وجنوب أفريقيا وسويسرا وحتى المغرب، مطالبة الكنيسة بفتح ملف رسمي.
كيف بدأت هذه المسيرة؟
بدأ الإخوة الفرنسيسكان بجمع كتابات الأخت مريم بعد وفاتها عام 1942، وكان أوّل من بادر بذلك المعرّف الأب سيلفير فان دن برويك حتى وفاته عام 1949. لاحقًا، استأنف الأب رافائيل بونانو هذا العمل، وتبعه الأب سابينو دي ساندولي، الذي زار سويسرا، ووضع تسلسلًا زمنيًا لحياتها، ونشر مواد تعريفية تتضمن صلاة من أجل إعلان تطويبها. في سويسرا، أُنشئت لجنة خاصة منذ عام 1960 لدراسة أحداث حياتها ورسالتها، وكان من أبرز المساهمين الأب ألان-ماري دوبوان، الذي نشر أول سيرة ذاتية عنها عام 1979. كما دعم أساقفة من جنوب أفريقيا هذه المسيرة برسائل رسمية وموثقة.
صورة نادرة التُقطت قبل وفاتها بأشهر قليلة
ما الذي مهّد لانطلاق التحقيق الرسمي؟
في عام 2013، بدأت راهبات دير الكلاريس في القدس اتصالات مع الأب جياني كاليـفانو، النائب العام للرهبنة الفرنسيسكانية، ما أدى إلى تأسيس "الطرف المقدِّم للقضية" رسميًا عام 2023، وتم استكمال الإجراءات التمهيدية التي أدت إلى افتتاح الجلسات رسميًا.
ما دور محكمة الدعوى؟
اجتمع أعضاء المحكمة في القدس لاستجواب 21 شاهدًا تم اختيارهم بحرص من بين العديد من الإفادات المقدَّمة، وذلك بناءً على معايير وتحليل أجراه مجمع دعاوى القديسين في الفاتيكان. وقد أدلى حتى الآن أربعة شهود بشهاداتهم حول تأثير الأخت مريم على حياتهم.
أكّد المطران أن الشهود لا يعرفون بعضهم البعض، ولا يتلقون الأسئلة مسبقًا، حتى لا تكون إجاباتهم مبنية على منطق معدّ أو نصوص مكتوبة، بل تكون عفوية ونابعة من القلب. ويُستجوب هؤلاء الأشخاص وفق قائمة من الأسئلة الواردة من مجمع دعاوى القديسين في روما، بعد أن يؤدوا القسم بالحفاظ على السرية والتحلي بالمصداقية في أقوالهم.
من أهم أهداف المحكمة هو الحصول والتأكيد على رسالة خادمة الله الخاصة في زماننا. أشار المطران إيلاريو أن الإجابات مؤثرة وتظهر تأثيرها على حياة هؤلاء الأشخاص بشكل ملموس، رغم مرور أكثر من 80 عامًا على وفاتها. قال المطران: "ليست المعرفة الذهنية وحدها ما يحدّد القداسة، بل التغيير الجذري الذي تُحدثه حياة شخص ما في حياة الآخرين، وهذا ما نبحث عنه في الشهادات الشفوية". وأضاف، معلقاً على أهمية هذا الجزء من عملية التطويب: "القداسة تنبع من شهادة المؤمنين، الكنيسة فقط تعترف بها رسمياً. الناس يشعرون بـ'القداسة' كما يشعرون بالدفء دون أن يروا مصدره". فقد لامست حياتها وكتاباتها، ولا سيما كتابها الروحي "الحوار الداخلي"، لامس قلوبهم بعمق، وتركَ أثرًا بالغًا في مسيرتهم الإيمانية، حتى انفتحت حياتهم الروحية على أبعاد جديدة من العمق والنضج.
هذا الكتاب، الذي دوّنته الأخت مريم طاعة لمرشدها الروحي، يتناول موضوعات روحية جوهرية، أبرزها: محبة الله ورحمته، الاتحاد بالمسيح من خلال الألم والتواضع، الثقة الكاملة بالعناية الإلهية، والدعوة إلى الحياة الخفية من أجل خلاص الآخرين. وقد تُرجم إلى عدة لغات، منها: الفرنسية (لغة الأصل)، والعربية والإنجليزية والإيطالية والإسبانية والألمانية والبرتغالية والبولندية.
يضمّ الكتاب سلسلة من الحوارات الروحية العميقة بين يسوع والأخت مريم، والتي آمنت بأنها نِعَم أوحى بها إليها السيد المسيح نفسه، فدوّنتها كشهادة لحضور الله في أعماق النفس البشرية.
كيف تُجمع الشهادات؟
تعقد الجلسات في البطريركية اللاتينية في القدس، بحيث يجب على الشاهد القدوم من بلده الأصلي لإدلاء شهادته، ويقوم كلاً من:
- المطران إيلاريو أنطونياتسي، المندوب البطريرك، باستجواب الشهود؛
- الأب فيليبو مورلاكّي، محامي العدالة، يسجل الشهادة حرفيًا؛
- الأخت مارينا فيشر، كاتبة العدل، مراجعة النص للتأكد من دقته؛
- يُقرأ النص على الشاهد، ويوقّع عليه بعد تأكيده؛
- تخضع جميع الشهادات للسرّية التامة لحماية مصداقيتها.
من اليسار إلى اليمين: الأب فيليبو مورلاكّي، المونسنيور إيلاريو أنطونياتسي، المطران وليم شوملي، النائب البطريركي العام، الأب أوليسه زارزا الفرنسيسكاني، والأخت مارينا فيشر، خلال جلسة أداء القسم
هل هناك دور لـ"محامي الشيطان"؟ (محامي الشيطان: هو الدور الذي يقوم به بعض المحاميين من أجل العمل على نقد الجلسات والأسباب التي تدعو إلى إعلان القداسة)
هذا الدور غير موجود رسمياً في هذه المرحلة، لكن تُطرح خلال الجلسات أسئلة دقيقة للتحقق من مصداقية الشهادات وتمييز الشهرة الحقيقية بالقداسة من مجرد الإعجاب أو التقدير.
هل توجد لجان أخرى مشاركة؟
نعم. فبالإضافة إلى المحكمة، تم تعيين لجنة تهتم بالأمور التاريخية لسيرة حياة الأخت مريم وقد باشرت عملها في 8 كانون الأول 2024 لجمع وتحليل الوثائق على أن تقدم تقريرًا مفصلًا إلى حاضرة الفاتيكان. كما تتابع لجنة لاهوتية من الفاتيكان تحليل كتاباتها، وتضم هذه اللجنة اثنين من المختصين يُكلفان بشكل مستقل، للتأكد من انسجام كتاباتها مع عقيدة الكنيسة، وخلوها من أي تعليم غير مستقيم. وقد استغرقت الدراسة عامًا كاملًا، وبلغ حجم التقرير الأول أكثر من 100 صفحة، تنتهي بخلاصة تقييمية حول القيمة الروحية لهذه النصوص.
تجدر الإشارة إلى أن محكمة الدعوى تبقى على تواصل مستمر مع اللجان الأخرى والجهة المختصة في روما، بهدف إعداد الملف النهائي.
ومتى تُعلن طوباوية؟
بعد جمع الشهادات والتقارير التاريخية واللاهوتية، تُرسل الوثائق إلى مجمع دعاوى القديسين في الفاتيكان. إذا ثبتت بطولتها في ممارسة الفضائل تُعلَن "مكرّمة"، ثم يُطلب حدوث معجزة تُنسب إلى شفاعتها من اجل إعلان التطويب، ومعجزة أخرى لإعلان قداستها.
الختام: الكنيسة تواصل الاعتراف بأصوات النعمة
قال المطران إيلاريو خلال المقابلة: "إن الكنيسة في الأرض المقدسة ليست مجرّد شاهدة على التاريخ، بل هي كنيسة حية، ولا تزال تزهر وردًا يانعاً (إشارة إلى القديسين) للكنيسة الجامعة. كما أشار إلى أن "راهبات الحياة التأملية، مثل راهبات الكلاريس، يخترن طوعًا أن يعشن داخل أسوار الدير، في عزلة وصمت وصلاة، لكن قلوبهن وأرواحهن تبقى حاضرة مع العالم خارج الجدران. لقد شهدنا عبر السنين كيف انبثقت من بينهن رسائل روحية قوية أثّرت في حياة الكثيرين، دون أن يتكلّمن، بل من خلال حضور صامت مليء بالله".
وبينما تسير أبرشية القدس قُدمًا في هذا المسار، وقد يستغرق سنوات عديدة، يُشجَّع المؤمنون على معرفة سيرة حياة الأخت مريم وقراءة كتاباتها، ونشير بأن معظم كتاباتها قد ترجمت إلى اللغة العربية بفضل المطران سليم الصايغ، مُقدماً تحليلا لهذه النصوص من منظور روحي وتطبيقي، ومؤكّدًا على عمقها الإيماني وارتباطها بالحياة اليومية.
قبر خادمة الله الأخت مريم للثالوث في مقبرة دير القديسة كلارا في القدس، وقد نُقِش عليه: "كوني بذرَتي الصغيرة المزروعة في تُرابِ القدس، لأجني لكِ الثمار في كنيستي" (راجع "الحوار الداخلي"، رقم 502).
عن اعلام البطريركية اللاتينية
No comments:
Post a Comment