بقلم الاب لويز حزبون
الاحد الثاني بعد الميلاد (يوحنا 1: 1-18)
النص الإنجيلي (يوحنا 1: 1-18)
1 في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله. 2 كانَ في البَدءِ لَدى الله. 3 بِه كانَ كُلُّ شَيء وبِدونِه ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كان. 4 فيهِ كانَتِ الحَياة والحَياةُ نورُ النَّاس 5 والنُّورُ يَشرِقُ في الظُّلُمات ولَم تُدرِكْه الظُّلُمات. 6 ظَهَرَ رَجُلٌ مُرسَلٌ مِن لَدُنِ الله اِسْمُه يوحَنَّا 7 جاءَ شاهِداً لِيَشهَدَ لِلنَّور فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس. 8 لم يَكُنْ هو النُّور بل جاءَ لِيَشهَدَ لِلنُّور. 9 كان النُّورُ الحَقّ الَّذي يُنيرُ كُلَّ إِنْسان آتِياً إِلى العالَم 10 كانَ في العالَم وبِه كانَ العالَم والعالَمُ لَم يَعرِفْهُ. 11 جاءَ إِلى بَيتِه. فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه. 12 أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله: 13 فهُمُ الَّذينَ لا مِن دَمٍ ولا مِن رَغبَةِ لَحْمٍ ولا مِن رَغبَةِ رَجُل بل مِنَ اللهِ وُلِدوا. 14 والكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا فرأَينا مَجدَه مَجداً مِن لَدُنِ الآبِ لابنٍ وَحيد مِلؤُه النِّعمَةُ والحَقّ. 15 شَهِدَ له يوحَنَّا فهَتف: ((هذا الَّذي قُلتُ فيه: إِنَّ الآتيَ بَعْدي قد تَقَدَّمَني لأَنَّه كانَ مِن قَبْلي)). 16 فمِن مِلْئِه نِلْنا بِأَجمَعِنا وقَد نِلْنا نِعمَةً على نِعمَة. 17 لأَنَّ الشَّريعَةَ أُعطِيَت عن يَدِ موسى وأَمَّا النِّعمَةُ والحَقّ فقَد أَتَيا عن يَدِ يسوعَ المسيح. 18 إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه.
المقدمة
يبدأ يوحنا الحبيب انجيله بنشيدٍ لكلمة الله المُتجسد (يوحنا 1: 1-18) حيث كانت الجماعة المسيحية الاولى تترنَّم به احتفاء بالمسيح، ابن الله الذي "فيه خُلِقَ كُلُّ شيَء" (قولسي1: 15)، وقد "أُظهِرَ في الجَسَد"(1 طيموتاوس 3: 16)، وجاء ليُقيم وسط البشر ليُخلصنا وليُعلمنا أن قيمتنا لدى الربّ كبيرة جدّاً، وإذا أمنّا به تكون لنا الحياة الابدية (يوحنا 20: 31). ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص وأبعاده الروحية.
وقائع النص الانجيلي (يوحنا 1: 1-18)
1 في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله.
تشير عبارة "في البدء" الى الزمن المطلق وليس الى زمن العالم أو زمن الخلق، حيث انَّ "الكلمة" وُجد قبل الخلق، وهو كائن ازلي، لا بداية له. فهو كان ولا يزال الكائن الأزلي. و"الكلمة " هو حكمة اللَّه المُتحدِّث معنا، والذي يُقدِّم ذاته كلمة اللَّه لكي نقتني سرّ حياة أبدية؛ وفكرة "الكلمة" هو امتداد الفكر اليهودي حول الحكمة التي هي واقع قبل الخلق والتي بدت شخصا حيَّا لا فكرة مجردة (أمثال 8: 2-31)، حيث يصف الحكمة قوة الله الأبدية والإبداعية والمُضيئة، وينظر الى كل من "الكلمة" و "الحكمة" على أنهما متماثلان. أمَّا عبارة "كانَ" في الأصل اليوناني ἦν (معناها "كان" من غير خبر) فتشير الى الكينونة وتدلُّ صيغته في الزمن الماضي على مدة ثابتة مستقرة يتعذر تحديدها. وهكذا جاء تأمل يوحنا حول " الكلمة" كامتداد للحكمة في الفكر اليهودي، وهي كائن ازلي يوجد منذ الازل ويدوم مدى الازل (أمثال 8: 22-26، سيراخ 24: 9). أمَّا "الكَلِمَة" في الأصل اليوناني λόγος (معناها الكلمة) فتشير الى المسيح، بصفته الابن الازلي، وهو التعبير الحقيقي عن الآب، كما جاء في تعليم بولس الرسول "هو صُورَةُ اللهِ الَّذي لا يُرى" (قولسي 1: 15)، وهو " شُعاعُ مَجْدِه وصُورةُ جَوهَرِه" (عبرانيين1: 3)، ويُصبح بالتَّجسد تجلي الله بأسمى درجة في قلب البشرية كما جاء في تعليم يوحنا الرسول "الحَياةَ ظَهَرَت فرَأَينا ونَشهَد ونُبَشِّرُكمِ بِتلكَ الحَياةِ الأَبدِيَّةِ الَّتي كانَت لَدى الآب فتَجلَّت لَنا" (1يوحنا 1: 2). ويوحنا لم يصف المسيح ب "الكلمة" الاّ في مقدَّمة إنجيله فقط. والجدير بالذكر ان "كلمة الله" كان تعبيرا متداولاً بين اليهود. وكلمة الله في الكتاب المقدس هي فعّالة ومبدعة وديناميكية كما يصفها صاحب المزامير "يُرسِلُ إِلى الأَرض كَلِمَتَه فيُسرعُ قَولُه في عَدْوه" (مزمور 147: 15). أمَّا عبارة " لَدى" الحرف اليوناني πρὸς (معناه عند او اتجاه او مع ويتضمن علاقة وتمييز) فلا تشير الى التعايش فقط، بل التشارك الفعّال الموجَّه. ويدل لفظ "الكلمة" هنا عن اقنوم يتميّز عن الله الآب، وهو متحد به اتحادا تاماً، كما يدل ايضا على وجوده الازلي. "الكلمة" كان ولا يزال الأقنوم المتمايز عن أبيه؛ وأمَّا عبارة "الله " في الاصل اليوناني θεὸς (معناها الاله وقد وردت بدون أداة تعريف) فتشير الى التأكيد لأنها جاءت في اول الجملة. ومن هذا المنطلق يكون "الكلمة" هو الله بمعنى انه مساو للآب على مستوى الطبيعة الالهية ومشترك معه في الجوهر، وبحكم هذه الصلة فهو الله. وكون المسيح كلمة الله فهو الله، لأنه لا يعرف أفكار الله ليعلنها إلا الله كما قيل "فمَنِ الَّذي عَرَفَ فِكْرَ الرَّبّ أَو مَنِ الَّذي كانَ لَه مُشيراً؟" (رومة 11: 34)، "ولا مِن أَحدٍ يَعرِفُ الآبَ إِلاَّ الابْن" (متى 11: 27). أمَّا عبارة " الكَلِمَةُ كانَ لَدى الله " فتشير الى الابن الذي هو اقنوم مُميَّز عن اقنوم الآب، ومع ذلك بينهما اتحاد كامل واتفاق تام في كل قضاء وعمل، ولهما نفس المجد والعظمة والكرامة كما جاء في صلاة يسوع الكهنوتية " مَجِّدْني الآنَ عِندَكَ يا أَبتِ بِما كانَ لي مِنَ المَجدِ عِندَكَ قَبلَ أَن يَكونَ العالَم " (يوحنا 17: 5).
أمَّا عبارة " الكَلِمَةُ هوَ الله" فتشير الى القول الثالث في شأن المسيح ومعناه أنه ليس ملاكاً او مخلوقا آخرا، لكنه مساوٍ للآب في الجوهر أي لديه صفات الآب نفسها وقوته واستحقاقه الاكرام والطاعة والعبادة التي يستحقَّها الآب. وتُثبت هذه الآية صحة التثليث لتمييزها أقنومين، وتبيِّن أنهما متساويان. وتكشف هذه الآية أيضا ثلاثة أمور: أزلية الكلمة، اقنوميته وأتحاده بالآب، ولاهوته أي كونه والآب واحداً في الجوهر.
2 كانَ في البَدءِ لَدى الله
تشير عبارة " كانَ في البَدءِ لَدى الله " الى "الكلمة" الذي كان ولا يزال هو اللَّه. وهو شريك مع الآب في الأزلية. وهذه الآية تُذكرنا فيما ورد في سفر الامثال " الرَّبُّ خَلَقَني أُولى طرقِه قَبلَ أَعمالِه مُنذُ البَدْء مِنَ الأَزَلِ أُقمتُ مِنَ الأوَلِ مِن قَبلِ أَن كانَتِ الأَرْض" (أمثال 8: 22-23) وتجمع هذه الآية العبارات الثلاث في الآية الأولى " في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله"(يوحنا 1: 1) في معنى كامل واحد. اما عبارة " كانَ " فتشير الى فعل يدلُّ على الكينونة، وليس الصيرورة. ولذلك فإن وجود "الكلمة" غير مرتبط بالزمن وغير مخلوق.
3 بِه كانَ كُلُّ شَيء وبِدونِه ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كان.
تشير عبارة " بِه كانَ " الى "الكلمة " الذي خلق العالم كالآب، فتبيَّن من خلال اعماله انه الله، لانَّ الخلق يختصُّ بالله وحده بدليل انه " في البَدءِ خلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والأَرض" (التكوين 1: 1). وبذلك اظهر الابن أنه كلمة الله بالخلق، فهو خالق المسكونة، فقد خلق جميع الاشياء من العدم (يوحنا 17: 24). واكّد ذلك بولس الرسول " ففيه خُلِقَ كُلُّ شيَء مِمَّا في السَّمَواتِ ومِمَّا في الأَرْض ما يُرى وما لا يُرى أَأَصْحابَ عَرْشٍ كانوا أَم سِيادَةٍ أَم رِئاسةٍ أَم سُلْطان كُلُّ شيَءٍ خُلِقَ بِه ولَه" (قولسي 1: 61). وإن عمل الخلق هو عمل الآب والابن كما ورد في أسفار العهد القديم التي ربطت خلق العالم بكلمة الله (مزمور33: 6) او بحكمة الله (8: 27-30). الله خلق الكون كله بكلمته. وأمَّا عبارة " كُلُّ شَيء " فتشير الى العالم كله بمادته وأرواحه وحيواناته وكل ما فيه، أي كل موجود هو عمل الله وهو صالح. وهذا التعليم يتنافى مع تعليم الغنوصيَّة الثنائية التي تتحدث عن إله خير وإله شر. اما عبارة "وبِدونِه ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كان " فتشير الى تأكيد العبارة الأولى " بِه كانَ كُلُّ شَيء " تبديدأ الشك ان كل الخلق من عمل المسيح؛ ولم يعمل المسيح كألةٍ بيد الله، بل كان عاملا معه كما جاء في تعليم بولس الرسول "أَمَّا عِندَنا نَحنُ، فلَيسَ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وهو الآب، مِنه كُلُّ شَيءٍ وإِلَيه نَحنُ أَيضًا نَصير، ورَبٌّ واحِدٌ وهو يسوعُ المسيح، بِه كُلُّ شيَءٍ وبِه نَحنُ أَيضًا " (1 قورنتس 8: 6). وهذه الآية تنفي قول أفلاطون بأزلية المادة وقول الغنوصِّيين بان خالق المادة روح شرير.
4 فيهِ كانَتِ الحَياة والحَياةُ نورُ النَّاس
تشير عبارة "فيهِ كانَتِ الحَياة" الى حياة المسيح في ذاته، وهو مصدر حياة سائر الاحياء " إنَّ اللهَ وَهَبَ لَنا الحَياةَ الأَبدِيَّة وأَنَّ هذهِ الحياةَ هي في ابنِه" (1 يوحنا 5: 11). أمَّا عبارة "الحَياة" فتشير الى الحياة الطبيعية، وهي عكس الموت (تكوين 7: 2 وأعمال 25: 17)، والى حياة الانسان على الأرض (تكوين 7: 25 ولوقا 25: 16)، والحياة الروحية، والحياة الأبدية، وهذا دليل آخر على لاهوت المسيح. لان الخلق هو عمل يختص بالله كما جاء في التوراة " جَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ الإِنسانَ تُرابًا مِنَ الأَرض ونَفخَ في أَنفِه نَسَمَةَ حَياة، فصارَ الإِنسانُ نَفْسًا حَّيَة" (التكوين 2: 7). والحياة هي حياة الله والمسيح في المؤمن المولود ثانية (يوحنا 3: 3 و5). وتكرَّرت لفظة "الحياة" (32) مرة في انجيل يوحنا، و(127) مرة في اسفار العهد الجديد. "الكلمة" هو مصدر الحياة المادية والبشرية والحياة الروحية. ب"الكلمة" أعطيت الحياة للخليقة، وبه أُعطيت لنا الحياة الالهية كما صرّح المسيح " أَنا فقَد أَتَيتُ لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم" (يوحنا 10: 10)، "أنا هو الطريق والحَقُّ والحَياة" (يوحنا 14: 6). أمَّا عبارة " الحَياةُ نورُ النَّاس " فتشير الى يسوع نور العالم بالذات بمعنى هو معلم البشر الذي يُرشدنا الى طريق الحق والسلام ويحمينا من الضلال والإثم لذلك هو نور، ولانَّ " اللهَ نورٌ" (1 يوحنا 1: 5). هو النور الذي يرشد البشر الى الطريق الواجب سلوكه (يوحنا 8: 12). وأعلن يسوع ذلك بقوله " أَنا نُورُ العالَم " (يوحنا 8: 12). كان المسيح نور الناس قبل تجسُّده (غلاطية 3: 9) وكان كذلك بواسطة خدمته الذاتية (عبرانيين 1: 2)، ولا يزال نور العالم بروحه (يوحنا 14: 16). إنه نور حياتنا، أي حقيقتنا المطلقة، ولا يمكننا العثور على أي نور آخر لإعطاء معنى لما نعيشه، سوى في اندماج حياتنا في حياته. فهناك صلة بين النور والحياة كما جاء في تعليم صاحب المزامير "لأنَّ يَنْبوعَ الحَياةِ عِندَكَ ونُعايِنُ النُورَ بِنورِكَ" (مزمور36: 10). والانسان يحصل على الاستنارة الروحية من "الكلمة"، كلمة الله، كلمة الحياة. واختصار نسبَ الإنجيل الى يسوع ثلاثة أعمال: الخلق والإحياء والإنارة.
5 والنُّورُ يَشرِقُ في الظُّلُمات ولَم تُدرِكْه الظُّلُمات.
لا تشير عبارة " الظُّلُمات " الى الظلمة المادية لكن الى الظلمة الأدبية أي ظلمة الجهل والخطيئة الذي سقط العالم بأسره فيها بسقوط الإنسان الأول. اما عبارة " َيشرِقُ " فتشير الى نور المسيح الذي أرسل اشعته الى العالم قبل تجسُّدِه بأعمال الخلق وعنايته الإلهية (رومة 1: 20) وبتأثيره في ضمائر الناس وبالنبؤءات وعن طريق المُبشرين، وبعد تجسُّده أشرق يسوع بنور تعليمه وأعماله ومعجزاته كي يكشف لنا عن وجه الله. وأمَّا عبارة " لَم تُدرِكْه الظُّلُمات" فتشير الى عدم فهم الناس الجهلاء والاشرار ظهور "الكلمة" في خلق العالم كما يؤكد الرسول بولس "فلَمَّا كانَ العالَمُ بِحِكمَتِه لم يَعرِفِ اللّه..." في الخليقة (1 قورنتس 1: 21). كذلك لم يدرك العالم نور "الكلمة" في التجسُّد؛ لأنه في نزاع مع الظلمة الناشئة عن عصيان الانسان وجهله، كما جاء في تعليم السيد المسيح " فقد غَلُظَ قَلبُ هذا الشَّعب وأَصَمُّوا آذانَهم وأَغمَضوا عُيونَهم لِئَلاَّ يُبصِروا بِعيونِهم ويَسمَعوا بِآذانِهم ويَفهَموا بِقُلوبِهم ويَرجِعوا. أَفأَشفيهم؟ " (متى 13: 15).
6 ظَهَرَ رَجُلٌ مُرسَلٌ مِن لَدُنِ الله اِسْمُه يوحَنَّا.
تشير عبارة "ظهر" في الأصل اليوناني Ἐγένετο (معناها كان). أمَّا عبارة " مُرسَلٌ مِن لَدُنِ الله " فتشير الى يوحنا المعمدان الذي هو ليس المسيح، إنما هو الرسول الموعود به (ملاخي 3: 1) ارسله الله لتهيئة الطريق أمام المسيح. أمَّا عبارة " يوحَنَّا " فتشير الى يوحنا المعمدان الذي يشهد بما "رأى وسمع" (يوحنا 3: 32). يوحنا صيغة عربية للاسم العبري יוֹחָנָן (معناه الله يتحنن). وهو وابن زكريا الشيخ وزوجته اليصابات (لوقا 1: 5 – 25). وكلاهما من نسل هارون ومن عشيرة كهنوتية. وهو عظيم ليس في أعين الناس فقط، بل أمام الله. وأن مصدر عظمته الشخصية هو امتلاؤه من الروح القدس، ومصدر عظمته الوظيفية هو أنه سيكون المُهيِّأ لطريق الرب، والمُبشِّر بظهور المسيح الموعود. وتقدَّم يوحنا أمام المسيح متمماً النبوة التي كان يتوق إليها كل يهودي بأن ايليا يأتي قدام المسيح، (ملوك 4: 5 ومتى 11: 14). وكان ناسكاً زاهداً، على خطى ايليا النبي في ارتداء عباءة من وَبَر الإبل، شادّاً على حقويه منطقة من جلد، ومُتغذيا بطعام من جراد وعسل بري، ومُبكتاً الناس عن خطاياهم، وداعياً إياهم للتوبة، لأن المسيح قادم. وبدأ كرازته في سنة 26 ب. م. شاهدا أن يسوع هو المسيح (يوحنا 1: 15)، وأنه حمل الله (يوحنا 1: 29). وكان يُعمِّد التائبين بعد أن يعترفوا بخطاياهم في نهر الأردن. (لوقا 3: 2 -14). وقد طلب يسوع من يوحنا أن يعمِّده، لا لأنه كان محتاجاً إلى التوبة، بل ليُقدِّم بذلك الدليل على اندماجه في الجنس البشري وصيرورته اخاً للجميع. وحوالي نهاية سنة 27 م. أمر هيرودس انتيباس رئيس الربع بزجه في السجن، لأنه وبَّخه على فجوره (لوقا 3: 19 و20). وبعد ثلاثة أشهر أمر بقطع راسه بسبب هيروديا. ولم يُترك جثمانه دون كرامة، لأن تلاميذه جاؤوا حالاً ورفعوه ودفنوه. أن المسيح شهد فيه أعظم شهادة قائلا "لم يَظهَرْ في أَولادِ النِّساءِ أَكبَرُ مِن يُوحَنَّا المَعمَدان" (متى11: 11). وهناك فرق بين يوحنا والمسيح. يوحنا هو إنسان، ويسوع هو "الكلمة"، يوحنا هو مُرسل من الله، والمسيح هو الله.
7 جاءَ شاهِداً لِيَشهَدَ لِلنَّور فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس.
تشير عبارة " شاهِداً " الى شهادة الروح مع أرواحنا (رؤية 8: 16) منيراً أذهاننا، ودافعاً إياناً إلى العمل بمشيئة الله. وكانت وظيفة يوحنا هي الشهادة ان يسوع هو المسيح (يوحنا 1: 31)، منادياً بين الناس بوجوب التوبة قبل مجيء المسيح ليُعدَّ قلوبهم لقبوله عند مجيئه، ثم دلَّهم عليه بعدما أتى. وتكرَّر فعل "شهد"(31) مرة في إنجيل يوحنا دلالة على أهمية الشهادة. شهد يوحنا في دعوى المسيح، وكان لا يدعو التلاميذ اليه، بل الى المسيح والى الايمان به. امَّا عبارة " لِيَشهَدَ لِلنَّور " فتشير الى الشهادة للمسيح الذي هو نور كما صرّح يسوع لليهود " آمِنوا بِالنُّور، ما دام لكُمُ النُّور لِتَصيروا أَبناءَ النُّور" (يوحنا 12: 36)؛ أمَّا عبارة " فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس" فتشير الى هدف شهادة يوحنا المعمدان بان يفتح أبواب الإيمان للجميع كي يؤمنوا ان يسوع هو المسيح ابن الله الحي.
8 لم يَكُنْ هو النُّور بل جاءَ لِيَشهَدَ لِلنُّور.
تشير عبارة " لم يَكُنْ هو النُّور " الى يوحنا المعمدان الذي هو " السِّراجَ المُوقَدَ المُنير" (يوحنا 5: 35)، ونوره مقتبس من المسيح شمس البِرِّ، فهو شاهد للنور الذي مصدره المسيح. ويُعلق الراهب البندكتاني جان سكوت إيريجين " ليس بإمكان أيّ مخلوق، مهما علا شأنه بالفكر أو الذّكاء، أن يكون نورًا بحدّ ذاته وفي طبيعته ذاتها؛ فهو يشارك النّور الوحيد الحقيقيّ والجوهريّ الموجود في كلّ مكان " (عظة حول مقدّمة إنجيل القديس يوحنّا). فهذا هو موقع يوحنا الحقيقي عكس ما كان يقوله أتباع يوحنا. تُشدّد الآية على التباين بين يوحنا ويسوع. يوحنا المعمدان هو الشاهد للنور، لا النور، ويوحنا هو صديق العريس، لا العريس (يوحنا 3: 29).
9 كان النُّورُ الحَقّ الَّذي يُنيرُ كُلَّ إِنْسان آتِياً إِلى العالَم.
تشير عبارة " النُّورُ الحَقّ " الى يسوع الكلمة الذي هو النور الحقيقي " نُورُ العالَم" (يوحنا 8: 12) " يُنيرُ كُلَّ إِنْسان آتِياً إِلى العالَم "؛ يسوع هو النور الحقيقي تمييزا عن الانوار الكاذبة (2 قورنتس 11: 14). وسُمي يسوع بالنور الحقيقي كما سمي " الكَرمَةُ الحَقّ " (يوحنا 15: 1)، و "القُدْسِ الحقيقِيّ " (عبرانيين 9: 24). أمَّا عبارة " كُلَّ إِنْسان آتِياً إِلى العالَم " فتشير شمولية الخلاص، إذ به يستطيع كل انسان ان يستنير به لتحقيق حياته حتى ولو كان غريبا عن الوحي. أمَّا عبارة " آتِياً " في الأصل اليوناني ἐρχόμενον (معناه آتيا) فتشير الى النور الآتي أي المسيح، وليس الانسان الآتي. وقد اشير الى المسيح "الآتي " (متى 16: 27، 24: 42، 44).
10 كانَ في العالَم وبِه كانَ العالَم والعالَمُ لَم يَعرِفْهُ.
تشير عبارة "كانَ في العالَم وبِه كانَ العالَم والعالَمُ لَم يَعرِفْهُ" الى الإله الذي يُعلن عن ذاته للعالم. أمَّا عبارة "كانَ في العالَم " فتشير الى يسوع قبل تجسُّدِه. كان في العالم منذ البدء ولكن لم ترَه العيون البشرية، إنما كان حاضرا بالروح، يخلق العالم ويُنير العالم. فهو الذي وعظ أيام نوح كما جاء في تعليم بطرس الرسول " فذَهَبَ بِهذا الرُّوح!َ يُبَشِّرُ الأَرواحَ الَّتي في السِّجْنِ أَيضًا "(1 بطرس 3: 19)، وهو الملاك الذي صار مع بني إسرائيل في البرِّية كما جاء في خطبة إِسْطِفانُس "هذا الَّذي كانَ لَدى الجماعَةِ في البَرِّيَّةِ وَسيطًا بَينَ المَلاكِ الَّذي كلَّمَه على جَبلِ سيناء وبَينَ آبائِنا، فتَلَقَّى كَلِماتِ الحَياة لِيُبَلِّغَنا إِيَّاها" (أعمال الرسل 7: 38). أمَّا عبارة " وبِه كانَ العالَم " فتشير الى تكرار الآية السابقة "بِه كانَ كُلُّ شَيء وبِدونِه ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كان" (يوحنا 1: 3) موضِّحة ان يسوع لم يدخل العالم كغريب عنه، لأنه كان به قبلا يخلق ويعتني. أمَّا عبارة "العالَم" فتشير تارة الى الكون وتارة أخرى الى البشرية، موضع حب الله (يوحنا 3: 16) وتارة الى الناس الذين رفضوا "الكلمة" المُتأنِّس ومخطط الله (يوحنا 12: 31). ووردت لفظة "العالم" 68 مرة في انجيل يوحنا. أمَّا عبارة "والعالَمُ لَم يَعرِفْهُ" فتشير الى عدم معرفة العالم ليسوع بالرغم من انه كان موجوداً وجوداً خلاّقا في العالم قبل تجسده، والرغم من انه قد أعلن ذاته كمقيم في عالم وُجد بواسطته. ان أكثر البشر لم يعترفوا بالله، ولم يؤمنوا به، ولم يطيعوه، بل عبدوا الأوثان وسمُّوها آلهة، ولم يكن في هياكلهم الاَّ مذبحا واحد يُنسب الى الإله الحق كما أكد بولُسُ في خطبته في وَسَطِ الأَرْيوباغُس " فإِنِّي وأَنا سائِرٌ أَنظُرُ إِلى أَنصابِكُم وَجَدتُ هَيكَلاً كُتِبَ علَيه: إِلى الإِلهِ المَجْهول. فَما تَعبُدونَه وأَنتُم تَجهَلونَه"(اعمال الرسل 17: 23).
11 جاءَ إِلى بَيتِه. فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه.
تشير عبارة " جاءَ " الى ظهور يسوع علانية وفقا لقول النبي ملاخي " ويَأتي فَجأَةً إِلى هَيكَلِه السَّيِّدُ الَّذي تَلتَمِسونَه، ومَلاكُ العَهدِ الَّذي تَرتَضونَ بِه. ها إِنَّه آتٍ، قالَ رَبُّ القُوَّات"(ملاخي 3: 1)؛ أمَّا عبارة " بَيتِه " في الأصل اليوناني τὰ ἴδια (معناها خاصته) فتشير الى الأمَّة اليهودية، لانَّ الله اختارها لنفسه كما جاء في التوراة " لأَنَّكَ شَعبٌ مُقدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ، وإِيَّاكَ اخْتارَ الرَّبُّ إِلهكَ لِتَكونَ لَه شَعبَ خاصَّتِه مِن جَميعَ الشَّعوبِ التَّي على وَجهِ الأَرض" (تثنية الاشتراع 7: 6). اختار الله أولاد ابراهيم (تثنية الاشتراع 19: 5) وفداهم من ارض مصر وأعطاهم أرض كنعان والشريعة والعهود والانبياء كما جاء في تعليم بولس الرسول "أُولئِكَ الَّذينَ هم بَنو إِسرائيل ولَهُمُ التَّبَنِّي والمَجْدُ والعُهود والتَّشريعُ والعِبادَةُ والمَواعِدُ والآباء" (رومة 9: 4)؛ وهذا الشعب يُمثل البشرية في التاريخ التي هي ملك الخالق. أمّا عبارة " فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه " فتشير ليس فقط الى الظلمة كما أشار يوحنا سابقا "لَم تُدرِكْه الظُّلُمات " (يوحنا 1: 5)، بل الى خاصته أيضا وهم الذين رفضوا ان يقبلوا "الكلمة"، وذلك من ايام المسيح حتى أيامنا مع ان الله اعدّهم لقبوله من خلال رموز ونبوءات، وجعلهم يتوقعون مجيئه. فكان عليهم ان يعرفوه ويتقبلوه عند مجيئه، ولكن لمَّا ظهر بينهم رفضوه وصلبوه (متى 23: 27)، وعلة رفضهم إياه مخلصا وملكا روحيا هو إعماء الخطيئة لعيونهم.
12 أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله.
تشير عبارة " أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه " الى الذين اعترفوا بالمسيح من كل شعب وامَّة، بأنه الكلمة والنور والحياة. وقبول المسيح هنا يقتضي الإيمان، لان مجده مستتر ولاهوته محجوب من خلال جسده. أمَّا عبارة "يُؤمِنونَ بِاسمِه" فتشير الى الذين يعترفون ويقرّون بقدرة الابن ويدعونه بثقة رباً ومخلصاً حيث ان الإيمان هو بمثابة الانتماء الى المسيح بالاعتراف به ابن الله الذي يكشف عن سر الآب. أمَّا عبارة " بِاسمِه" فتشير الى فتشير في نظر القدماء الى تعبير عن دور الكائن في العالم؛ والاسم المُعطى عند الولادة يعبّر عادةً عن نشاط أو مصير من يحمله (تكوين 27: 36)، وإذا كان لشخص عدة أسماء، فقد يدلُّ على أهمية رجل يقوم بعدة مهام. وليسوع مجموعة القاب، وأهمها "الكلمة" (يوحنا 1: 1) و "يسوع، لأَنَّه هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم" (متى 1: 21) و "عِمَّانوئيل " أَيِ اللهُ معَنا (متى 1: 23). أمَّا عبارة " فقَد مَكَّنَهم " في الأصل اليوناني ἔδωκεν αὐτοῖς ἐξουσίαν (معناها اعطاهم سلطانا) فتشير الى إعطاء نعمة خاصة او حق للمؤمنين به كي يصيروا أبناء الله. أمَّا عبارة" يَصيروا أَبْناءَ الله" فتشير الى الله الآب الذي يعطي الّذين يؤمنون به نوراً وهويّة جديدة، وهي هويّة البنوة. هذه هي الحياة الحقيقيّة. جعل المؤمنين به من اهل بيت الله، وهم بالطبيعة "أبناءَ هذهِ الدُّنيا (لوقا 16: 8)، وأَبْناءِ المَعصِيَة. (أفسس 2: 2) "وأَبناءَ الغَضَبِ (أفسس 2: 3). وهكذا صار المؤمنون أبناء الله كما صرَّح بولس الرسول "هذا الرُّوحُ نَفْسُه يَشْهَدُ مع أَرواحِنا بِأَنَّنا أَبناءُ الله" (رومة 8: 4)، وذلك من خلال ولادتهم الجديدة بالإيمان ومحبة الله لهم كمحبة الأب لبنيه واعتناء بهم وحمايتهم كي "يصلوا إِلى وَحدَةِ الإِيمانِ بِابنِ اللهِ ومَعرِفَتِه ويَصيرَوا الإِنسان الرَّاشِد وَبلُغَوا القامةَ الَّتي تُوافِقُ كَمالَ المسيح" (أفسس 4: 13) وإرثهم ميراثا سماويا "وإِذا كُنتَ ابنًا فأَنتَ وارِثٌ بِفَضْلِ اللّه" (رومة 4: 7). وهذا الامر لا نستطيع ادراكه الاَّ بعد دخولنا السماء كما جاء في تعليم يوحنا الرسول "أَيُّها الأَحِبَّاء نَحنُ مُنذُ الآنَ أَبناءُ الله ولَم يُظهَرْ حتَّى الآن ما سَنَصيرُ إِليه. نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا نُصبِحُ عِندَ ظُهورِه أَشباهَه لأَنَّنا سَنَراه كما هو "(1 يوحنا 3: 2). أرادنا الله على مثال ابنه المتجسد، يسوع المسيح، لكن الله لا يفرض نفسه بالقوة، ولا يُجبر أحداً، بل يتركنا أحراراً. ومن هذا المنطلق، كل واحدٍ منا مدعو للقيام بخيار شخصي تجاه الكلمة الذي صار بشراً. هل نرفضه كما فعل العالم واهل بيته، ام نقبله ونؤمن به؟
13 فهُمُ الَّذينَ لا مِن دَمٍ ولا مِن رَغبَةِ لَحْمٍ ولا مِن رَغبَةِ رَجُل بل مِنَ اللهِ وُلِدوا.
تشير عبارة " فهُمُ الَّذينَ لا مِن دَمٍ ولا مِن رَغبَةِ لَحْمٍ ولا مِن رَغبَةِ رَجُل " فتشير الى إبعاد كل وهمٍ في كيفية صيرورة الناس أبناء الله عن طريق الدم أي مشيئة جسد ومشيئة رجل كما زعم اليهود لأنهم ذرية إبراهيم. ويعسر ان نميِّز بين معنى الدم ورَغبَةِ لَحْمٍ ولا رَغبَةِ رَجُل. ولعلّ في ذلك وصف الولادة الطبيعة من أدنى درجات نشوئها الى أعلاها. أمَّا عبارة " دَمٍ " فتشير الى مركز الحياة كقول الله تعالى " أَنَّ نَفْسَ الجَسَدِ هي في الدَّم" (الاحبار 17: 11)؛ أمَّا عبارة " ولا مِن رَغبَةِ لَحْمٍ " فتشير الى عجز الانسان ان يُصيِّر نفسه ابنا لله؛ أمَّا عبارة " ولا مِن رَغبَةِ رَجُل " فتشير الى باطل اتكال الانسان على غيره من الناس لينال بنوة الله، لان بنوة الله لا تتوقف على اتفاق الانسان مع غيره من الناس لينال بنوة الله، انما تتوقف على نعمة الله. أمَّا عبارة " مِنَ اللهِ وُلِدوا "فتشير إلى نعمة من الله التي بفضلها صرنا أبناء الله، لأننا وُلدنا من الله كما يُعلن القديس بطرس الرسول " فإِنَّكم ولِدتُم وِلادةً ثانِيَة، لا مِن زَرْعٍ فاسِد، بل مِن زَرْعٍ غَيرِ فاسِد، مِن كَلِمَةِ اللهِ الحَيَّةِ الباقِيَة" (1 بطرس 1: 23)، وفي موضع آخر يقول يوحنا الإنجيلي " نَعلَمُ أَنَّ كُلَّ مَن وُلِدَ للهِ لا يَخطأَ لكِنَّ المَولودَ للهِ يَحفَظُه فلا يَمَسُّه الشِّرِّير" (1 يوحنا 5: 18). والولادة الروحية هي النعمة الإلهية بقوة الله، وهي تتضمن الدعوة والتجديد والتقديس. وخلاصة القول لا تدل الآية على ولادة بشرية بل على ولادة روحية.
14 والكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا فرأَينا مَجدَه مَجداً مِن لَدُنِ الآبِ لابنٍ وَحيد مِلؤُه النِّعمَةُ والحَقّ.
تشير عبارة " الكَلِمَةُ صارَ بَشَراً " الى مولد يسوع العجيب وعبوره التاريخي الذي فيه صار الكلمة الازلي بشراً، مُتخذا جسداً ليصير الإنسان ابن الله، لان ابن الله الوحيد صار إنساناً. فمن كان في العالم بالروح خالقا (يوحنا 1: 3) وحياة ونور (يوحنا 1: 4-5) أخذ طريقا جديدة لإعلان الله بإضافة الطبيعة البشرية الى الطبيعة الإلهية، وفي ذلك سر التجسد. ويعلق القدّيس أوغسطينوس" إنّ كَلِمة الله الذي جعل نفسه بشرًا لكي نلمسه بأيدينا. أصبح بشرًا منذ أن كان في أحشاء العذراء مريم، لكنّه لم يصبح عندئذ الكلمة، لأنّه كان كذلك "منذ البدء" (تعليق على رسالة يوحنّا الأولى). لم يتطرق يوحنا الانجيلي من خلال حديثه حول ميلاد المسيح عن الاماكن والاشخاص بل يتكلم عن ولادته مباشرة دلالة على ولادته من الآب قبل الزمن بدون أم، وولادته من مريم البتول بدون أب في الزمن. أمَّا عبارة " بَشَراً " في الأصل اليوناني σάρξ (معناه بشر) فتشير الى الانسان الكامل المكوّن من لحم ودم والموسوم بالضعف المؤدِّي الى الموت. صار "الكلمة" انسانا كاملا (يوحنا 17: 2) وذلك يتضمن ان جسد المسيح كان جسدا حقيقيا لا صورة. وهذا يتنافى مع تعليم البدعة الظاهرية التي تجعل من التجسد مجرد مظهر او هيئة إنسان أُخذت وقتيا أي ان "الكلمة" تظاهر او تراءى بشكل بشري، لكنه ما كان إنسانا، ولا مات على الصليب (1 يوحنا 4: 2)، ويتضمن التجسد أيضا ان للمسيح نفس بشرية، وان الروح الإلهي لم يحل محل الروح الإنساني كما ادّعى ابوليانوس. وأتى يسوع ذلك لكي يكون " مُشابِهًا لإِخوَتِه في كُلِّ شَيء " (عبرانيين 2: 17)، وأمكنه ذلك ان يتألم ويُجرَّب ويتعلم وينمو ويصلي ويموت كسائر الناس وان يُسمِّي نفسه: ابنِ الإِنْسان " (يوحنا 1: 52). فتجسَّد "الكلمة" في الواقع البشري حدثٌ يُشكل الساعة الحاسمة في تاريخ الخلاص. ومنذ اللحظة التي فيها لُفظت كلمة "بشر" اختفى لقب "الكلمة" بشكل نهائي. وأخذ يوحنا يستعمل مراراً "ابن الانسان". لذلك يتوجب على البشر ان يروا في سماته البشرية مجد الله، حيث شهدت الجماعة المسيحية الأولى انها رات مجده. أمَّا عبارة "سَكَنَ " في الأصل اليوناني ἐσκήνωσεν (معناها نصب خيمته وفي هذا تلميح الى الهيكل) (يوحنا1: 51) فتشير الى مكان الحضور الالهي وتجلي مجد الله (خروج 40: 34-35). والخيمة ترمز الى مجد الله في وسط شعبه. وكما سكن الله روحيا خيمة الاجتماع في وسط بين إسرائيل في البرِّية نحو أربعين سنة (أعمال الرسل 7: 38) كذلك سكن يسوع الأرض نحو ثلاث وثلاثين سنة؛ أمَّا عبارة "بَينَنا" فتشير الى الناس عامة (يوحنا 1: 5) والتلاميذ خاصة كما شهد عل ذلك تلميذه الحبيب يوحنا الرسول " ذاك الَّذي كانَ مُنذُ البَدْء ذاك الَّذي سَمِعناه ذاك الَّذي رَأَيناهُ بِعَينَينا ذاكَ الَّذي تَأَمَّلناه ولَمَسَتْه يَدانا مِن كَلِمَةِ الحَياة " (1 يوحنا 1: 1). أمَّا عبارة " مَجدَه " تشير في العهد القديم الى ما يكشفه الله للناس، وهو تارة يظهر كبهاء نيِّر يُلازم ما هو مقدس، وتارة كأحداث تُظهر قدرة الله. أمَّا في العهد الجديد فان أعمال المسيح ومعجزاته خاصة حدث الفصح (يوحنا 13: 31) تكشف مجده (يوحنا 2: 11). أمَّا عبارة "فرأَينا مَجدَه " فتشير الى الشهود الاصليين الذين عاينوا مجد الله. كما أظهر الله مجد في العهد القديم بسحابة نور في خيمة الاجتماع وفي الهيكل وبالرؤى (أشعيا 6: 1) كذلك أظهر المسيح مجده بمعجزاته (يوحنا 2: 11، 11: 4)، وبتجليه امام رسله الثلاثة: يوحنا وبطرس ويعقوب، وبصعوده أمام كل الرسل، وبقداسة سيرته وصلاحه وتعلميه واحتماله الالام من اجل البشر. رؤية الرسل مجد يسوع هو برهان على انه ليس مجرد ابن الإنسان، بل ابن الله أيضا. ويعلق القدّيس أفرام السريانيّ " فأنت ابن الله وابن الإنسان أيضًا (مرقس 1: 1 + 8: 31)، وابن يوسف (لوقا 3: 23) وابن داود (لوقا 20: 41) وابن مريم (مرقس 6: 3). أمَّا عبارة " لابنٍ وَحيد" فتشير الى لقب يدل على الطابع الفريد على بنوة المسيح، ابن الله، لأنه له الشبه التام بينه وبين الله، ومساو لله في المجد والإكرام، ولأنه هو إعلان المحبة (الروح القدس) بين الاقنوم الأول (الآب) والاقنوم الثاني (الابن). وهو الابن الوحيد لله تمييزا عن أبناء الله الذين نالوا ولادتهم من الله بواسطة إيمانهم بالمسيح، وقد ورد ذكرهم (يوحنا 1: 12، 13)، وهذه البنوة تمكّن الابن من الاشتراك في " النعمة والحق". أمَّا عبارة " النِّعمَةُ والحَقّ " فتشير الى صفات الله المميزة له عن كل خليقته كما شهد على ذلك موسى النبي " ومَرَّ الرَّبُّ قُدَّامَه فنادى: الرَّبُّ الرَّبّ! إِلهٌ رَحيمٌ ورَؤُوف، طَويلُ الأَناةِ كَثيرُ الَرَّحمَة والوَفاء " (خروج 34:6). فالمسيح باعتبار كونه كلمة الله أعلن هاتين الصفتين للناس، وهما ميزتين "للكلمة" الذي هو حياة ونور حيث ان النعمة تعطي الحياة، والنور يهدي الى الحق. ولم يُعلن مجد الابن في الجلال والقوة (هما مفهوما المجد في العهد القديم) فحسب، انما ايضا في النعمة والحق. أمَّا عبارة "النِّعمَةُ" فتشير الى كرم الله وصلاحه الذي يهب عطاياه بسخاء لا حدَّ له (خروج 34: 6)؛ وتظهر محبة الله للخطأة بالنعمة، اذ ان نعمة الله تُخلصهم من الخطيئة بدون ان يستحقوا ذلك (1 طيموتاوس: 1: 2). ولذلك يُسمَّى الإنجيل "بِشارةِ نِعمَةِ الله (أعمال الرسل 20: 24). وكان يولس الرسول يبدأ رسالته بنعمة الله (1 قورنتس 1: 3 الخ...). أتى المسيح ببشارة النعمة بغية إظهار المحبة الإلهية للخطأة لغفران خطاياه وخلاص نفوسهم. أمَّا عبارة " الحَقّ " فتشير الى يسوع الذي هو الحق (يوحنا 14: 6)، والحق هي الوسيلة التي يتَّخذها روح الله في الولادة الجديدة. وأتى يسوع بإعلان حق الله الروحي غير المحجوب برموز واشارات وظلال العهد القديم. ولفظة الحق تتكرر في إنجيل يوحنا (25) مرة دلالة على أهمِّتها.
15 شَهِدَ له يوحَنَّا فهَتف: ((هذا الَّذي قُلتُ فيه: إِنَّ الآتيَ بَعْدي قد تَقَدَّمَني لأَنَّه كانَ مِن قَبْلي.
تشير عبارة " شَهِدَ له يوحَنَّا " الى شهادة يوحنا المعمدان إثباتا لما ورد في الآية السابقة " والكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا فرأَينا مَجدَه مَجداً مِن لَدُنِ الآبِ لابنٍ وَحيد مِلؤُه النِّعمَةُ والحَقّ " (يوحنا 1: 14)، ويوحنا المعمدان هو واحد ممن رأوا ذلك المجد وشهدوا للنور. أمَّا عبارة " هذا الَّذي قُلتُ فيه " فتشير الى قول يوحنا المعمدان عن المسيح قبلما شاهده وعرفه كما صرح المعمدان " وأَنا لَم أَكُنْ أَعرِفُه، ولكِنَّ الَّذي أَرسَلَني أُعَمِّدُ في الماءِ هو قالَ لي: إِنَّ الَّذي تَرى الرُّوحَ يَنزِلُ فيَستَقِرُّ علَيهِ، هو ذاكَ الَّذي يُعَمِّدُ في الرُّوحِ القُدُس " (يوحنا 1: 33)، وكان يومئذ يكرز في البرِّية (متى 3: 11-13). أمَّا عبارة " إِنَّ الآتيَ بَعْدي " فتشير الى يوحنا المعمدان الذي سبق يسوع في امرين: الولادة والشروع في الخدمة. أمَّا عبارة " قد تَقَدَّمَني " فتشير الى المسيح كان قبل المعمدان في ثلاثة أمور: كونه منذ الأزل، وكونه في العالم بروحه زمن العهد القديم كما ورد في الكتاب المقدس "قالَ أَشَعْيا هذا الكَلام لِأَنَّه رَأَى مَجدَه وتَكَلَّمَ في شَأنِه" (يوحنا 12: 41)، وأخيرا كون المسيح أعظم منه كما ان الملك أعظم من سابقه. أمَّا عبارة "قَبْلي" في الأصل اليوناني πρῶτος " (معناها قبلي في الزمان والمكان) فتشير الى يسوع الذي بالرغم من مجيئه يسوع بعد يوحنا المعمدان في التاريخ الاَّ انه يفوقه في أصله الالهي ورسالته وفي الوجود والكرامة. المسيح هو قبل يوحنا في الوجود، لأنه "الكلمة" المولود قبل الزمن.
16 فمِن مِلْئِه نِلْنا بِأَجمَعِنا وقَد نِلْنا نِعمَةً على نِعمَة.
تشير عبارة " فمِن مِلْئِه نِلْنا بِأَجمَعِنا " الى كلام يوحنا الرسول وهو يتابع قوله في الآية السابقة " الكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا فرأَينا مَجدَه مَجداً مِن لَدُنِ الآبِ لابنٍ وَحيد مِلؤُه النِّعمَةُ والحَقّ " (يوحنا 1: 14). وقوله نلنا يتضمن نفسه وسائر المؤمنين. أمَّا عبارة " نِعمَةً على نِعمَة " فتشير الى شهادة يوحنا المعمدان التي تؤدِّي الى معرفة الكلمة المُتجسِّد، وهذه المعرفة تجعل المؤمنين يشاركون في ملء الخيرات الروحية نعمة على نعمة، وفقا لقوله تعالى " مَن كانَ لَه شَيء، يُعْطى فيَفيض" (متى 13: 12). كما ان بني إسرائيل كانوا يجمعون ما يحتاجون اليه من المن يوما فيوما (خروج 16: 1-36)، كذلك المؤمنين يأخذون من نعمة المسيح ما يحتاجون اليه لنفوسهم يوما فيوما. يفتح المؤمنون قلوبهم يوما بعد يوم لقبول عطيّة الله التي لا حد لها. فكل بركة هي مرحلة لبركة أعظم، وكل نعمة ننالها بإيمان تصحبها نعمة أكبر.
17 لأَنَّ الشَّريعَةَ أُعطِيَت عن يَدِ موسى وأمَّا النِّعمَةُ والحَقّ فقَد أَتَيا عن يَدِ يسوعَ المسيح.
تشير عبارة "الشَّريعَةَ أُعطِيَت عن يَدِ موسى" الى الناموس بقسميه الادبي والطقسي الذي اعطي عن يد موسى كخادم كما ورد في رسالة العبرانيين "كانَ موسى مُؤتَمَنًا في بَيته أَجمَع لِكَونِه قَيِّمًا يَشهَدُ على ما سَوفَ يُقال" (عبرانيين 3: 5)، وهذه الشريعة هي الإعلان لله استعدادا لإعلان آخر أسمى وأكمل للنعمة والحق اللتين أَتَيا عن يَدِ يسوعَ المسيح. تقضي شريعة موسى بالعدل وتتطلب من الإنسان الطاعة، لكنها لا تستطيع ان تعطي حياة كما هي شريعة يسوع المسيح. أمَّا عبارة " الشَّريعَةَ " في الأصل اليوناني νόμος مشتقة من العبرية תּוֹרָה (التوراة) (معناها ناموس) فتشير الى "شريعة موسى" او أسفار الشريعة الخمسة التي تشمل على مجمل الفرائض التي يُقرّ بها اسرائيل ومضمون الشريعة. الوصايا العشر (خروج 20 :2-17)، شرعة العهد (خروج 20 :19-23 :19)، شريعة القداسة (الاحبار 19-26)، وشرائع كهنوتيّة وهناك النصوص القانونية والطقوسيّة. اما عبارة "" موسى " فتشير الى قائد الامة العبرانية وأسمه بالمصرية الفرعونية معناه "ولد" وبالعبرية מֹשֶׁה "معناه مُنتَشل مِنَ الماء" (خروج 2: 10). وقد ولد موسى في الوقت الذي فيه كان فرعون قد شدَّد بقتل صبيان العبرانيين. وكان أصغر اولاد ابيه وثالث ثلاثة أولاد: مريم البكر وهارون الثاني. وربته ابنة فرعون على يد معلمين مهرة في جميع فنون مصر التعليمية والدينية. وعندما بلغ 40 سنة من العمر دبَّرت العناية الالهية ان يهرب الى البَرِّية فترك جميع رفاهة البلاط الملكي وسكن البَّرية في خيام يثرون واخذ ابنته صفوره زوجة له. وفي السن الاربعين رأى موسى ناراً في وسط عليقة (خروج 3: 2-4). وامره الله ان يذهب الى مصر ليكون قائداً لشعبه ويُخرجهم من هناك حيث قضوا فيها 40 سنة. ومن صفات موسى الحميدة حلمه (عدد 12:3)، وكذلك خلوه من طلب المجد العالمي، وشجاعته وايمانه وامانته ومحبته لإمَّته محبَّة قوية حتى انه طلب من الله ان يمحو اسمه من سفره ولا يهلك شعبه (خروج 32: 32). وقد اعطى الله الناموس لموسى رأساً، ثم منحه قوة على إدراك معناه واثبات فوائده بحيث صارت مبادئ ذلك الناموس قاعدة للكثير من الشرائع. ومن العجائب الشهيرة التي جرت على يدي موسى إرواء الشعب بالماء في مارَّة (خروج 15: 25) وحوريب (خروج 17:6 7) وقاديش (عدد 20: 1 و8-13). وكان موسى نبياً عاين شبه الرب (عدد 12:8) وبقي اربعين يوماً مع الله في السحاب على سيناء اذ شرَّفه الله بذلك مرتين (خروج 24: 17 و34: 28). ويُعرف عند الكثيرين بانه كليم الله. ثم مات ودفنه الرب " في الوادي في أَرضِ موآب، تُجاهَ بَيتِ فَغور. ولم يَعرِفْ أَحَدٌ قَبرَه إِلى يَومِنا هذا" (تثنية الاشتراع 34: 6)، ولم يقم بعد نبي في اسرائيل مثل موسى الذي عرف الرب وجهاً لوجه (تثنية الاشتراع 34: 10). وظهر موسى مع ايليا على جبل التجلي وتكلما مع المسيح " على رَحيلِه الَّذي سَيتِمُّ في أُورَشَليم" (لوقا 9: 31). أمَّا عبارة " وأَمَّا النِّعمَةُ والحَقّ فقَد أَتَيا عن يَدِ يسوعَ المسيح" فتشير الى الرحمة التي تتطلب من الانسان المحبة وتعطيه الحياة والحق الذي يحرِّره من عبودية الخطيئة. وما النعمة والحق الا َّالله الذي وهب ذاته في شخص الكلمة المُتجسد. أظهر المسيح نعمة الله بإعلانه طريق الخلاص، والمناداة بمغفرة الخطايا لكل مؤمن به، وبموته على الصليب لأجل خلاص البشر، وبمنحه الحياة الابدية للمؤمنين به. واظهر المسيح الحق بنفسه وتعليمه باعتبار كونه النبي الحقيقي والكاهن الحقيقي والذبيحة الحقيقة، وأنه أتمَّ كل رموز العهد القديم. والنعمة والحق هما الانجيل الذي اتى به المسيح كابنٍ كما جاء في رسالة العبرانيين " أَمَّا المسيح فهو مُؤتَمَنٌ على بَيتِه لِكَونِه ابنًا، ونَحنُ بَيتُه، إِنِ احتَفَظْنا بِالثِّقَةِ وفَخْرِ الرَّجاء" (عبرانيين 3: 6). وهكذا فضْل الانجيل على الشريعة يتضح كما قال بولس الرسول " إِذا كانَت خِدمَةُ المَوتِ المَنقوشَةُ حُروفُها في حِجارةٍ قد أُعطِيَت بِالمَجْد، حتَّى إِنَّ بَني إِسرائيلَ لم يَستَطيعوا أَن يُحَدِّقوا إِلى وَجْهِ مُوسى لِمَجْدِ وَجهِه، مع أَنَّه مَجْدٌ زائِل، فكَيفَ بِالأَحْرى لا تُعْطى خِدمَةُ الرُّوحِ بِالمَجْد؟ فإِذا كانَت خِدمَةُ الحُكْمِ على النَّاسِ مَجيدة، فما أَولى خِدمَةَ البِرِّ بِأَن تَفيضَ مَجْدًا " (2 قورنتس 7-9). أمَّا عبارة "يسوعَ المسيح" فتشير الى اول لقب في انجيل يوحنا "للكلمة"؛ ويسوع יֵשׁוּעַ معناه المخلص، والمسيح הַמָּשִׁיח معناه الممسوح من الله لإجراء عمل الفداء. تشرح الآية الفرق بين شريعة موسى ونعمة يسوع. وكان موسى رمزاً للمسيح، فانه ابى ان يدعى ابن ابنة فرعون لأنه لا يمكنه ان يكون كذلك مع حفظ ديانته. كما ابى المسيح ان يقبل ممالك العالم لأنه لم يمكنه قبولها بدون الاذعان لمطالب الشيطان، سيد هذا العالم (2 قورنتس 4: 4). وكان موسى مُحرِّراً لشعبه كما ان المسيح يُحرِّر تابعيه من عبودية الخطيئة. وأنشأ موسى ناموس الوصايا الجسدية، أمَّا يسوع فقد وهب ناموس الحياة الروحية. وكان موسى نبياً، أمَّا يسوع فهو نبي أعظم منه. وكان موسى وسيطاً بين الله وشعب بني إسرائيل اما المسيح فهو الوسيط بين الله والناس. والذين يتغلبون على الوحش وصورته يرتلون ترنيمة موسى والحمل (رؤية 15: 3). غاية الشريعة بيان ما يجب على الانسان عمله، وأمَّا غاية النعمة والحق بيان ما أراد الله ان يعمله من اجلنا.
18 إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه.
تشير عبارة" إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ" الى الانسان الذي هو عاجز عن الوصول بنفسه الى معرفة الله مباشرة. الانسان لا يرى الله، ولا يقدر ان يراه مهما فعل، كما قال موسى لشعبه "كلَمًكمُ الرَّبُّ مِن وَسَطِ النَّار، فكُنتُم تَسمَعونَ صَوتَ الكَلام ولم تَرَوا صورَةً، بل كانَ هُناكَ صَوتٌ فقَط" (تثنية الاشتراع 4: 12)، انما يستطيع الانسان فقط ان يطمح الى ذلك كما جاء في طلب فيلِبُّس ليسوع " يا ربّ، أَرِنا الآبَ وحَسْبُنا" (يوحنا 14: 8). فلا أحد من الناس ولا من الملائكة عرف الله حق المعرفة ليستطيع ان يعلم صفاته بلا خطأ، لان رؤية الله ضرورية لكمال المعرفة. فموسى لم ير الله (خروج 33: 20) كذلك إبراهيم والانبياء، لذلك لا يستطيعون ان يعلنوا الا ما أُعلن لهم بوحي او برؤيا " إِنَّ اللهَ، بَعدَما كَلَّمَ الآباءَ قَديمًا بِالأَنبِياءَ مَرَّاتٍ كَثيرةً بِوُجوهٍ كَثيرة" (عبرانيين 1: 1). امَّا عبارة "الابن الوحيد الذي في حِضْنِ الآب" فتشير الى يسوع الابن الوحيد الذي وحده قادر ان يعلن الله، لأنه "كلمة الله" وكان عند الله منذ الازل، ويعرف أفكار الله ومقاصده، ويعرف ذلك من تلقاء نفسه، وهذا يجعله أهلا للإعلان الآب على حققته كما صرّح يسوع لنيقوديمُس: " الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكَ: إنَّنا نتكلَّمُ بِما نَعلَم، ونَشهَدُ بِمَا رَأَينا" (يوحنا 3: 11). فالمسيح هو يشارك الآب الطبيعة الإلهية وهو وحده قادر ان يقود البشر الى معرفة الآب والاتحاد به. وقد اوحي يسوع بالله الآب وعبَّر عنه بحياته وبأعماله وتعليمه. امَّا عبارة " في حِضْنِ الآب " فتشير الى علاقة الابن بالآب والاتحاد به والمشاركة في عواطفه ومعرفة أفكاره وسعادته وراحته. فالمسيح مع انه كان بناسوته على الأرض، كان بلاهوته في حضن الآب كما هو منذ الازل والى الابد. امَّا عبارة " أَخبَرَ عَنه " فتشير الى اعلان يسوع وحده عن وجه الله، وهو وحده القادر على فعل هذا، حيث أنّه لم ير الله أَحدٌ قطّ سواه (يوحنا 1، 18)، لأنه هو الربّ (يوحنا 1: 18)، ولأنه يسكن بيننا ولأنه يأخذ جسدنا (يوحنا 1: 14)، وتجتمع فيه حياة الربّ وحياة البشر في حياة واحدة. فالمسيح أعظم من يوحنا المعمدان بأزليته وافضية تعليمه، وهو ايضا أعظم من موسى والانبياء، لذلك يتوجب علينا ان نتخذه معلما ونبيا ونتأمل في كلامه ونسأله الارشاد لأنه كما وصفه أشعيا "عَجيباً مُشيراً إِلهاً جَبَّاراً، أَبا الأَبَد، رَئيسَ السَّلام" (أشعيا 9: 5).
ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (يوحنا 1: 1-18)
بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (يوحنا 1: 1-18)، نستنتج انه يتمحور حول المسيح "كلمة" الله، الكائن الازلي الذي صار بشراً، ليجعل من البشر أبناء الله. وهو يعمل في الخليقة كما في التاريخ البشري. ومن هنا فإننا نبحث علاقة الكلمة بالوجود وبالخلق وبالتاريخ والتجسُّد.
اولا: الكلمة والوجود (يوحنا 1: 1-2)
في بدء سفر التكوين نحن امام عمل الله في الخلق. " في البَدءِ خلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والأَرض" (التكوين 1: 1)؛ وأمَّا في مقدمة انجيل يوحنا فنحن امام "الكلمة: الذي كان موجوداً من الأزل قبل الخَلق "في البَدءِ كانَ الكَلِمَة" (يوحنا 1: 1)، كما ورد في سفر الامثال " مِنَذ الأَزَلِ أُقمتُ مِنَ الأوَلِ مِن قَبلِ أَن كانَتِ الأَرْض" (الامثال 8: 23). وهو كائن غير مخلوق وهو ازلي، ووجوده غير مرتبط بالزمن بصفته "كانَ لَدى الله" وهو مرتبط ارتباطا وثيقا بالله.
ثانيا: الكلمة والخلق (يوحنا 1: 3-5)
المصدر الاساسي للخلق هو الآب ولم يشترك في عملية الخلق أي عامل وسيط. فالخَلق هو أول عمل، واول تعبير لله خارج عن ذاته. أمَّا "الكلمة " فهو اداة عمل الخلق، لان " بِه كانَ كُلُّ شَيء " (يوحنا 1: 3أ)، بمعنى ان "وبِه أَنشَأَ العالَمِين" (عبرانيين 1: 2) وكل الخليقة تقوم به وتستمد منه الحياة كما يقول بولس الرسول "ففيه خُلِقَ كُلُّ شيَء مِمَّا في السَّمَواتِ ومِمَّا في الأَرْض ما يُرى وما لا يُرى" (قولسي 1: 16). " وبِدونِه ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كان" (يوحنا 1: 3ب)، أي لن نحصل على شيء خارجا عن المسيح. انه مصدر الوجود ونبع الحياة. ونبع الحياة هو بالضرورة نبع النور. فيسوع هو خالق الحياة، وحياته تمنح النور للبشرية. فهو يُنير الطريق أمامنا لنتمكن من ان نرى كيف نحيا. وفي نوره نرى أنفسنا على حقيقتها كما هي. فنحن خطأة بحاجة الى مُخلص. ومع ذلك إن نور المسيح في نزاع مع الظلمة الروحية الناشئة عن عصيان الانسان وجهله. فلنتذكر ان الله خلقنا، فبدونه وبعيد عنه لا نستطيع ان نتمِّم المُخطَّط الذي وضعه من أجلنا كما صرّح يسوع " أَنَّكُم، بِمَعزِلٍ عَنِّي لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا شيئاً"(يوحنا 15: 5).
ثالثاً: الكلمة والتاريخ: (يوحنا 1: 6-13):
بعد ان وصف يوحنا الإنجيلي "الكلمة" أنَّه كائن ازلي وبه خُلق العالم، يصفه الآن في علاقته بالتاريخ مشيراً الى يوحنا المعمدان الذي بشّر بمجيئه وجاء ليشهد لنوره، وبشهادته قاد الناس الى إيمان حيٍ في الشخص الآتي الى العالم (يوحنا 1: 6-9) مؤكدا اولويَّة "الكلمة" والخضوع له.
وأعلن "الكلمة" المتجسد نفسه تاريخيا الى شعبه اسرائيل، ولكنهم لم يقبلوه (يوحنا1: 10) والى خاصته جاء (يوحنا 1: 12) وأبت خاصته ان ترحّب به. مع ان المسيح خالق العالم، لم يعرفه الناس الذين خلقهم (يوحنا 1: 10)، بل رفضه الناس الذين اختارهم الله ليهيئوا بقية العالم لمجيئه (يوحنا 1: 11) بالرغم من أن العهد القديم بأكمله كان يشير الى مجيئه. وهنا تظهر مأساة الرفض.
أمَّا الذين قبلوا يسوع المسيح رباَ ومخلصاً فقد وُلدوا ثانية ولادة روحية وأصبحوا ابناء الله لا عن طريق الولادة الجسدية بل عن طريق الولادة الروحية الجديدة من الله. إن هذه البداية الجديدة في الحياة متاحة لكل من يؤمن بالمسيح. لأنه جاء الى الارض ليهب البشرية رجاء حياته الابدية ونورها، الحياة التي لا يمكن ان تُباع او تُشترى لكنها تُعطى كهبة لمن يريد ان يحيا على طريقة ابناء الله الذين سيعيشون مستقبلا في ملكوته الابدي. وكأبناء الله يطلب منا المسيح ان نكون شهوداً له على مثال يوحنا المعمدان فنعكس نور المسيح للناس ونوجِّههم الى النور الحقيقي.
رابعاً: الكلمة والتجسد: (يوحنا 1: 14-18)
ا) التجسد
"الكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا ". الانبياء حملوا كلمات الله، أمَّا "الكلمة" الذي كان في البدء تجسَّد وصار إنساناً ودخل في الزمن ليجعل من البشر ابناء الله. وفي هذا الصدد يقول صاحب الرسالة الى العبرانيين " إِنَّ اللهَ، بَعدَما كَلَّمَ الآباءَ قَديمًا بِالأَنبِياءَ مَرَّاتٍ كَثيرةً بِوُجوهٍ كَثيرة، كَلَّمَنا في آخِرِ الأَيَّام هذِه بِابْنٍ جَعَلَه وارِثًا لِكُلِّ شيء وبِه أَنشَأَ العالَمِين. هو شُعاعُ مَجْدِه وصُورةُ جَوهَرِه، يَحفَظُ كُلَّ شيَءٍ بِقُوَّةِ كَلِمَتِه " (العبرانيين 1: 1-3). انه لم يكن انسان تأله، بل كان الها تأنس. أي ان المسيح كان قبل تجسده ابن الله، "كلمة" الله؛ وكان بعد تجسده ابن الانسان أي ابن مريم. وبعد تجسده هو ابن الله وابن الانسان معا. ويعلق القدّيس البابا لاوُن الكبير "رفعَ البشريّة بدون أن يحطّ من قيمة الألوهيّة. من خلال تجرّده من ذاته (فيلبي 2: 7)، ذاك الذي كان غير منظور أصبح منظورًا، لكن هذا كلّه كان تنازلاً لرحمته، لا خسارة لقوّته " (الرسالة 28 إلى فلافيانُس). المسيح نفسه الذي هو إله حقّ هو أيضًا إنسان حقّ؛ هو إله حق بفعل أنّه "في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله" (يوحنا 1: 1)؛ وهو إنسان حق بفعل أنّ "الكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا" (يوحنا 1: 14ومن هذا المبدأ كان المسيح إلهاً كاملا وإنساناً كاملا ذا طبيعتين إنسانية وإلهية في أقنوم واحد، واتخاذه الناسوت لم ينزع منه اللاهوت، بل علامات اللاهوت الظاهرة الاَّ عند المعجزات ليثبت رسالته. واتحاد الطبيعتين جعل لآلامه من اجل البشر قيمة لا حدَّ لها.
وبناء على عقيدة سر التجسد أعلنت الكنيسة ان يسوع المسيح هو ان يسوع المسيح هو إله حق وإنسان. وفي هذا الصدد يقول التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية " بالتجسد صار يسوع انسانا حقا وبقي الها حقا" (بند 463). فهو إله حق ابن الله بالطبيعة لا بالتبني وان ابن الله "مولود لا مخلوق، وهو والاب جوهر واحد" ضد هرطقة اريوس، (بند 465)، وان مريم اصبحت في الحقيقة والدة الاله بالحبل البشري بابن الله في احشائها كما جاء في مجمع أفسس: "والدة الاله، لا لكون كلمة الله اتخذ منها طبيعته الالهية، ولكن لكونه اتخذ منها الجسد المقدس مقرونا بنفس عاقلة، والذي اتحد به الكلمة شخصيا، فكان انه ولد بحسب الجسد (رسالة كيرلس الاسكندري الثانية الى نسطوريوس: د 250). واعترفت الكنيسة انه: "ليس هنالك الا شخص واحد، هو سيدنا يسوع المسيح، الاقنوم الثاني من الثالوث. فكل ما في ناسوت المسيح يجب ان ينسب الى الشخص الالهي على انه من عمله الخاص، ليس المعجزات وحسب، ولكن الالام ايضا، وحتى الموت: " ان الذي صلب بالجسد، سيدنا يسوع المسيح، هو إله حق، رب المجد وهو أحد من الثالوث القدوس (بند 468). ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: "يا كلمة الله الابن الوحيد، الذي لا يموت، لقد رضيت من اجل خلاصنا، ان تتجسد من والدة الاله القديسة مريم الدائمة البتولية، فتأنست بغير استحالة، وصلبت ايها المسيح الاله، انت أحد الثالوث القدوس، المُمجَّد مع الاب والروح القدس" (نشيد "يا كلمة الله").
والطريقة التي صار الكلمة بشراً هي انه وُلد من مريم العذراء، إذ حبلت به بطريق غير عادية بقوة الروح القدس. ولم يختلف يسوع عن البشر شيئا سوى أنه كان بلا خطيئة كما جاء في تعليم بولس الرسول " ذاكَ الَّذي لم يَعرِفِ الخَطيئَة " (1قورنتس 5: 21)، وفي موضع آخر يقول الكتاب المقدس " لَقَدِ امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ مِثْلَنا ما عَدا الخَطِيئَة" (عبرانيين 4: 15). بولادة يسوع صار الاله بشراً، وهو لم يكن جزئياً إنساناً وجزئيا الهاً، بل هو الهاً كاملا وإنساناً كاملا كما يؤكد بولس الرسول "فِيه يَحِلُّ جَميعُ كَمالِ الأُلوهِيَّةِ حُلولا جَسَدِيًّا"(قولسي 2: 9). فيسوع لم يوجد فقط عندما وُلد، لأنه ازلي الوجود. بميلاده يُعبِّر يسوع، كلمة الله المتجسد، عن ظهور الله السامي في قلب البشرية. ويعلق العلامة القديس اوغسطينوس " إنّنا لا نقدرُ أن نشاهدَ المولودَ من الآبِ قبلَ النور. فَلْنَتأمَّلْ في المولودِ من البتولِ في ساعاتِ الليل. إنّنا لا ندرِكُ "مَن قَبْلَ الشمسِ اسمُه دائمٌ" (مزمور 71: 17)، فَلْنَنظُرْ إلى خيمتِه التي ضربَها في نورِ الشمسِ. إنّنا لا نقدِرُ أن نَرى الابنَ الوحيدَ المقيمَ في الآبِ، فَلْنُشاهِدْ مذودَ ربِّنا يسوعَ المسيح" (العظة 194، 3-4: PL 38، 1016-1017).
الكلمة المتجسد هو الآن مسيح التاريخ بذاته حيث اتخذ لنفسه جسداً بشرياً حقيقياً وليس جسدا ظاهريا فقط كما تدَّعي البدعة الظاهريّة (دوسيتيّة) التي أنكرت واقع التجسّد. إنه سكن وسط البشر. أمَّا جلاله الالهي وقوته فقد أصبحا محجوبين في جسد. وقد ادَّى يوحنا المعمدان شهادة شاهد عيان عن مجد هذا "الكلمة" المتجسد خاصة عند اعتماد يسوع على يده في الأردن (متى 3: 13-17). وهكذا لم يعدْ الله مخفيَّا بل أصبح الآن معروفاً عن طريق تجسُّد ابنه الذي هو نور العالم. فيسوع المسيح هو التفسير الكامل لله. ومن هنا يبدأ يوحنا انجيله ويختتمه معلنا ان الكلمة المتجسد يسوع المسيح هو الله. في بدء انجيله يعلن ان "الكَلِمَةُ هوَ الله " (يوحنا1: 1)، ويؤكد ذلك في آخر إنجيله بشهادة توما أحد الاثني عشر رسولا بقوله " رَبِّي وإِلهي!" (يوحنا 20: 28). وهكذا تلخص هاتان العبارتان إنجيل يوحنا.
ب) هدف التجسد
*معرفة الله: صار الكلمة بشرا لكي نعرف الله بطريقة ملموسة مرئية: لم يكن الناس يعرفون الله الا جزئيا من خلال الانبياء قبل مجيء المسيح. أمَّا بعد مجيء المسيح فقد كشف الله لشعبه عن طبيعته وجوهره بطريقة يمكن مشاهدتها ولمسها، لأنه في المسيح صار الله انسانا يحيا على الارض فمكَّن للناس ان يعرفوا الله بالكامل، لأنه صار ملموسا ومرئيا لهم في المسيح. وخير دليل على ذلك ما اختبره القديس يوحنا الحبيب " ذاك الَّذي كانَ مُنذُ البَدْء ذاك الَّذي سَمِعناه ذاك الَّذي رَأَيناهُ بِعَينَينا ذاكَ الَّذي تَأَمَّلناه ولَمَسَتْه يَدانا مِن كَلِمَةِ الحَياة، لأَنَّ الحَياةَ ظَهَرَت فرَأَينا ونَشهَد" (1 يوحنا 1: 1-3) إن المسيح هو التعبير الكامل لله في صورة بشرية محسوسة.
* معرفة محبة الله: صار الكلمة بشرا لكي نعرف محبة الله. " ما ظَهَرَت بِه مَحبَّةُ اللهِ بَينَنا هو أَنَّ اللهَ أَرسَلَ ابنَه الوَحيدَ إِلى العالَم لِنَحْيا بِه. " (1 يوحنا: 9)؛ اذ ان الله " فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة "(يوحنا 3: 16). جاء بيننا ليقدِّم نفسه ذبيحة عن كل الخطايا "وقَد حَقَّقَ السَّلامَ بِدَمِ صَليبِه لِيَجعَلَنا في حَضرَتِه قِدِّيسينَ لا يَنالُنا عَيبٌ ولا لَوم" (قولسي 1: 20). أصبح "الكلمة" إنسانًا ليخلّص الإنسان من الموت الأبديّ. ويعلق القدّيس لاوُن الكبير " مخلّصنا أتى ليقضي على الخطيئة والموت، أتى كذلك ليحرّر البشر أجمعين. فليبتهج القدّيس لأنّه اقترب من الانتصار، وليفرح الخاطئ لأنّه مدعوّ إلى التوبة، وليتحلّ الوثنيّ بالشجاعة لأنّه مدعوّ إلى حياة التجرد"(العظة الأولى عن ميلاد يسوع المسيح). فإذا كان موسى يُركز على شريعة الله وعدله، فالمسيح يركّز على رحمة الله ومحبته وغفرانه "فمِن مِلْئِه نِلْنا بِأَجمَعِنا وقَد نِلْنا نِعمَةً على نِعمَة". وهو لا يزال يرافقنا على مرِّ الاجيال ويتواجد في جميع مرافق حياتنا.
* المصالحة مع الله: صار الكلمة بشرا لكي يُخلصنا بمصالحتنا مع الله: "هو أَحَبَّنا فأَرسَلَ ابنَه كَفَّارةً لِخَطايانا " (1 يوحنا 4: 10) "ان ذاك ظَهَرَ لِيُزيلَ الخَطايا " (11 يوحنا 3: 5). ويعلق القديس غريغوريوس النيصي" "مريضةً، كانت طبيعتنا تطلب الشِفاء، وساقطةً، ان تُقال عَثْرَتُها، وميتةً، ان تُبعث حَيَّة؛ ان البشرية كانت في حالةٍ جدِّ بائسة وجدِّ تعسة. الم تكن تستحق ان تحرك عطف الله الى حد ان تنزله حتى طبيعتنا البشرية فيعودها؟ (خطاب 15، 3). بالتجسد أصبح الله في طبيعتنا البشريّة على الأرض بين البشر، ويخاطب بلطفٍ وطيبةٍ، في جسدٍ بشريّ، مع إخوته من نَسلِه. ويعلق القدّيس باسيليوس أسقف قيصريّة قبّدوقية " أصبح ذاك الذي اكتسى بشكل كامل الطبيعة البشريّة والذي، بجسده الذي هو جسدنا، يرفع نحوه البشريّة جمعاء" (عظة عن ميلاد الرّب)
* شركاء في الطبيعة الإلهية: صار الكلمة بشرا لكي يجعلنا " شُرَكاءَ الطَّبيعَةِ الإِلهِيَّة" (2 بطرس 1: 4)، اذ اراد المسيح ان نشاركه في الوهته فاخذ طبيعتنا البشرية. ويعلق القديس ايرينيوس ""فهذا هو السبب الذي من اجله صار الكلمة بشرا، صار ابنُ الله ابنَ الانسان: لكي يصير الانسان ابن الله بدخوله في الشركة مع الكلمة وبنيله هكذا البنوة الالهية" (الرد على الهرطقات 3، 19، 1).
* مثال القداسة لنا: صار الكلمة بشرا لكي يكون مثالا لنا في القداسة: "الكلمة" الذي كان عند الله حلّ بين البشر ليُعلمنا كيف يفكر الله، وبالتالي كيف ينبغي علينا ان نفكر نحن؛ جاء بيننا ليكون قدوة لِمَا ينبغي ان نصيرَ عليه، فهو يُرينا كيف نحيا، " فقَد ظَهَرَت نِعمَةُ الله، يَنبوعُ الخَلاصِ لِجَميعِ النَّاس، وهي تُعَلِّمُنا أن نَنبِذَ الكُفْرَ وشَهَواتِ الدُّنْيا لِنَعيشَ في هذا الدَّهْرِ بِرَزانةٍ وعَدْلٍ وتَقْوى" ( طيطس 1: 11) ، ويعطينا يسوع القوة ان نحيا على خطاه "ترَكَ لَكم مِثالاً لِتقتَفوا آثارَه" (1بطرس 2: 21). وفي هذا الصدد يقول المجمع الفاتيكاني الثاني " بتجسده اتحد ابن الله نوعا ما بكل إنسان. لقد اشتغل بيد انسانٍ، وفكر كما يفكر الانسان، وعمل بإرادة انسان، وأحبَّ بقلب إنسان. لقد ولد من العذراء مريم وصار حقا واحدا منا شبيها بنا في كل شيء ما عد الخطيئة (دستور راعوي حول الكنيسة، بند 22، 2). وقال لنا يسوع "احمِلوا نيري وتَتَلمَذوا لي فإِنِّي وَديعٌ مُتواضِعُ القَلْب" (متى 11: 29) وقال أيضا " أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة. لا يَمْضي أَحَدٌ إِلى الآبِ إِلاَّ بي " (يوحنا 14: 6).
وخلاصة القول إن يسوع بصفته الابن الازلي هو التعبير التام عن الآب، " هو صُورَةُ اللهِ الَّذي لا يُرى "(قولسي 1: 15) "هو شُعاعُ مَجْدِه وصُورةُ جَوهَرِه" (عبرانيين 1: 3). ولأنه ابن الله قبل ان يكون ابن الانسان، فهو الحياة، لكل من يؤمن به ويتبعه، وهو النور للكل من يعتنق طريقه ويهتدي به، عندئذ نكون قد ولدنا من الله حقا. كيف نتعاون في هذه الولادة، في هذا الإلهام الباطني للكلمة؟ كيف نستحّق أن تتحقق فينا؟ ويجيب كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية "الايمان بالتجسد الحقيقي لابن الله هو العلامة المميزة للإيمان المسيحي (بند 463) كما أعلن يوحنا الرسول: "وما تَعرِفونَ به رُوحَ الله وهو أَنَّ كُلَّ رُوحٍ يَشهَدُ لِيَسوعَ المسيح الَّذي جاءَ في الجَسَد كانَ مِنَ الله" (1 يوحنا 4: 2).
الخلاصة
يبدأ يوحنا إنجيله بمقدمة متميِّزة من جهة الأسلوب والمفردات عن بقية السفر حيث يكشف فيها عن شخص ربنا يسوع المسيح قبل التجسُّد بكونه الكلمة الأزلي، لكي نتخطَّى كل زمن وننطلق إلى حضن الآب الأزلي، فنتعرَّف على خطة الله نحونا ومشيئته لخلاصنا ومجدنا الأبدي فنعيش معه إلى الأبد. لذلك لا داعي للعجب ان يقول القديس أوغسطينوس "أن فيلسوفًا أفلاطونيًا قال بأن هذه العبارات التي جاءت في بداية إنجيل يوحنا تستحق أن تُكتب بحروفٍ من ذهبٍ".
ويُبيِّن يوحنا الانجيلي، كواحد من الاثني عشر رسولا، وشاهد عيان، الى المؤمنين في كل مكان ان يسوع المسيح هو إنسان كامل وإله كامل. وبالرغم من أن يسوع اتخذ الناسوت كاملا وعاش كإنسان، إلا أنه لم يكفَّ ابداً عن ان يكون الله الابدي الازلي الكائن على الدوام، وخالق الكون، ومصدر الحياة الابدية.
ميلاد يسوع هو سر الايمان بلقاء بين الله والانسان، بين الأزل والزمن، بين الحياة الابدية والحياة الأرضية الفانية. وهذا ما لم نكن نتوقعه، صار المستحيل امرا واقعا حيث أصبحت الأرض مسكن الله، إذ جاء الله ليُخلص الانسان وسلطته الوحيدة هي سلطة الحب، وحبُّه يكفي لان نولد ولادة جديدة. ويعلق جان تولير الراهب الدومنيكاني "ولادة قديرة كهذه لا تتم إلا في قلبٍ انسان يتحلّى بنقاوة كبيرة ويعيش حياةً داخلية عميقة واتحادًا راسخًا مع الله. فالله يختار مسكنه في هذا القلب إن عرف هذا القلب كيف يحفظ اتحاده مع الله في عمق أعماق نفسه، ويحافظ على تأملاته ولا يتشتت في الأمور الخارجية" (الأعمال الكاملة، الجزء الأوّل: عظة حول الميلاد)
ولأن "الكلمة " هو الله، فهو قادر على ان يُخبرنا عن الله بوضوح. ولذلك يمكننا ان نثق في كل ما يقوله. وبالثقة فيه نكتسب معرفة لفهم رسالة الله واتمام مُخططه في حياتنا. عندئذ يتمجّد المسيح الإله بالإنسان، وكلّ إنسانٍ حيٍّ مدعوٌّ ليحقّق ذاته بكلّ أبعادها الروحية والمادّية، الثقافية والاجتماعية، الاقتصادية والوطنية، فيكون مجدَ الله. فان لم نؤمن بهذه الحقيقة الاساسية فلن يكون لدينا ثقة ان نسلم حياتنا وابديتنا اليه. وهذا ما دعا يوحنا لكتابة انجيله لنشر الايمان والثقة في يسوع المسيح، لكي نؤمن انه حقا كان الله في الجسد كما قال "وإِنَّما كُتِبَت هذه لِتُؤمِنوا بِأَنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله، ولِتَكونَ لَكم إِذا آمَنتُمُ الحياةُ بِاسمِه" (يوحنا 20: 31). لذا، إننا مدعوون، إلى وضع أساس لحياتنا، إلى التعرف على ما هو كائن منذ البدء، وهو مَن نريد أن نبني عليه حاضرنا ومستقبلنا في الدنيا والآخرة.
دعاء
أيها الآب السماوي، يا من أرسلت ابنك نورا وحياة للناس، نسألك ان تهبنا روح الحكمة لكي نعرف يسوع المسيح، الانسان الحق والاله الحق، فاديا لنا ونستقبله مخلصا فنصبح أبناء الله المخلصين وندرك إلى أيّ رجاءٍ دعاكم، وأيّ مجدٍ عظيمٍ جعله لنا ميراثاً بين القدّيسين". آمين
قصة مقدمة انجيل يوحنا البشير والعَالم الألماني
يُقال عن العالم الالماني Franciscus Junius الذي اشتهر بتجميع المخطوطات القديمة انه فقد كل القيم الدينية في شبابه، ولكنه استعادها بنعمة اللَّه خلال قراءته لمقدمة انجيل القديس يوحنا عن غير قصدٍ منه، قدمها له والده. شعر بقوتها وسلطانها عليه فقضى يومه كله لا يُدرك أين هو ولا ما كان يفعله، وكان جسمه مرتعبًا. وكان ذلك اليوم هو بداية حياته الروحية.
No comments:
Post a Comment